فصل: تفسير الآية رقم (41)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البيضاوي المسمى بـ «أنوار التنزيل وأسرار التأويل» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏97‏]‏

‏{‏جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏97‏)‏‏}‏

‏{‏جَعَلَ الله الكعبة‏}‏ صيرها، وإنما سمي البيت كعبة لتكعبه‏.‏ ‏{‏البيت الحرام‏}‏ عطف بيان على جهة المدح، أو المفعول الثاني ‏{‏قِيَاماً لّلنَّاسِ‏}‏ انتعاشاً لهم أي سبب انتعاشهم في أمر معاشهم ومعادهم يلوذ به الخائف ويأمن فيه الضعيف، ويربح فيه التجار ويتوجه إليه الحجاج والعمار، أو ما يقوم به أمر دينهم ودنياهم‏.‏ وقرأ ابن عامر «قيماً» على أنه مصدر على فعل كالشبع أعل عينه كما أعل في فعله ونصبه على المصدر أو الحال‏.‏ ‏{‏والشهر الحرام والهدى والقلائد‏}‏ سبق تفسيرها والمراد بالشهر الذي يؤدي فيه الحج، وهو ذو الحجة لأنه المناسب لقرنائه وقيل الجنس‏.‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى الجعل، أو إلى ما ذكر من الأمر بحفظ حرمة الإِحرام وغيره‏.‏ ‏{‏لِتَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض‏}‏ فإن شرع الأحكام لدفع المضار قبل وقوعها وجلب المنافع المترتبة عليها، دليل حكمة الشارع وكمال علمه‏.‏ ‏{‏وَأَنَّ الله بِكُلّ شَئ عَلِيمٌ‏}‏ تعميم بعد تخصيص ومبالغة بعد إطلاق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏98‏]‏

‏{‏اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏98‏)‏‏}‏

‏{‏اعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب وَأَنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ وعيد ووعد لمن انتهك محارمه ولمن حافظ عليها، أو لمن أصر عليه ولمن أقلع عنه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏99‏]‏

‏{‏مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ‏(‏99‏)‏‏}‏

‏{‏مَّا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ‏}‏ تشديد في إيجاب القيام بما أمر به أي الرسول أتى بما أمر به من التبليغ ولم يبق لكم عذر في التفريط‏.‏ ‏{‏والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ‏}‏ من تصديق وتكذيب وفعل وعزيمة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏100- 109‏]‏

‏{‏قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏100‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآَنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ‏(‏101‏)‏ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ ‏(‏102‏)‏ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏103‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ‏(‏104‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏105‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآَثِمِينَ ‏(‏106‏)‏ فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآَخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏107‏)‏ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏108‏)‏ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ‏(‏109‏)‏‏}‏

‏{‏قُل لاَّ يَسْتَوِى الخبيث والطيب‏}‏ حكم عام في نفي المساواة عند الله سبحانه وتعالى بين الرديء من الأشخاص والأعمال والأموال وجيدها، رغب به في مصالح العمل وحلال المال‏.‏ ‏{‏وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخبيث‏}‏ فإن العبرة بالجودة والرداءة دون القلة والكثرة، فإن المحمود القليل خير من المذموم الكثير، والخطاب لكل معتبر ولذلك قال‏:‏ ‏{‏فاتقوا الله ياأولي الألباب‏}‏ أي فاتقوه في تحري الخبيث وإن كثر، وآثروا الطيب وإن قل‏.‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏ راجين أن تبلغوا الفلاح‏.‏ روي‏:‏ أنها نزلت في حجاج اليمامة لما هم المسلمون أن يوقعوا بهم فنهوا عنه وإن كانوا مشركين‏.‏

‏{‏يأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ القرءان تُبْدَ لَكُمْ‏}‏ إن الشرطية وما عطف عليها صفتان لأشياء والمعنى‏:‏ لا تسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء إن تظهر لكم تغمكم وإن تسألوا عنها في زمان الوحي تظهر لكم، وهما كمقدمتين تنتجان ما يمنع السؤال وهو أنه مما يغمهم والعاقل لا يفعل ما يغمه، وأشياء اسم جمع كطرفاء غير أنه قلبت لامه فجعلت لفعاء‏.‏ وقيل أفعلاء حذفت لامه جمع لشيء على أن أصله شيء كهين، أو شيء كصديق فخفف‏.‏ وقيل أفعال جمع له من غير تغيير كبيت وأبيات ويرده منع صرفه‏.‏ ‏{‏عَفَا الله عَنْهَا‏}‏ صفة أخرى أي عن أشياء عفا الله عنها ولم يكلف بها‏.‏ إذ روي أنه لما نزلت ‏{‏وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت‏}‏ قال سراقة بن مالك‏:‏ أكل عام فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أعاد ثلاثاً فقال‏:‏ «لا ولو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم فاتركوني ما تركتكم» فنزلت أو استئناف أي عفا الله عما سلف من مسألتكم فلا تعودوا لمثلها‏.‏ ‏{‏والله غَفُورٌ حَلِيمٌ‏}‏ لا يعاجلكم بعقوبة ما يفرط منكم، ويعفو عن كثير وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أنه عليه الصلاة والسلام كان يخطب ذات يوم وهو غضبان من كثرة ما يسألون عنه مما لا يعنيهم فقال‏:‏ لا أسأل عن شيء إلا أجبت، فقال رجل‏:‏ أين أبي فقال في النار، وقال آخر من أبي فقال‏:‏ حذافة وكان يدعى لغيره» فنزلت‏.‏

‏{‏قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ‏}‏ في الضمير للمسألة التي دل عليها تسألوا ولذلك لم يعد بعن أو لأشياء بحذف الجار‏.‏ ‏{‏مِن قَبْلِكُمْ‏}‏ متعلق بسألها وليس صفة لقوم، فإن ظرف الزمان لا يكون صفة للجثة ولا حالاً منها ولا خبراً عنها‏.‏ ‏{‏ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كافرين‏}‏ أي بسببها حيث لم يأتمروا بما سألوا جحوداً‏.‏

‏{‏مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ‏}‏ رد وإنكار لما ابتدعه أهل الجاهلية وهو أنهم إذا نتجت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر بحروا أذنها أي شقوها وخلوا سبيلها، فلا تركب ولا تحلب، وكان الرجل منهم يقول‏:‏ إن شفيت فناقتي سائبة ويجعلها كالبحيرة في تحريم الانتفاع بها، وإذا ولدت الشاة أنثى فهي لهم وإن ولدت ذكراً فهو لألهتهم وإن ولدتهما قالوا وصلت الأنثى أخاها فلا يذبح لها الذكر، وإذا نتجت من صلب الفحل عشرة أبطن حرموا ظهره ولم يمنعوه من ماء ولا مرعى وقالوا‏:‏ قد حمي ظهره، ومعنى ما جعل ما شرع ووضع، ولذلك تعدى إلى مفعول واحد وهو البحيرة ومن مزيدة‏.‏

‏{‏ولكن الذين كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ على الله الكذب‏}‏ بتحريم ذلك ونسبته إلى الله سبحانه وتعالى‏.‏ ‏{‏وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ‏}‏ أي الحلال من الحرام والمبيح من المحرم، أو الآمر من الناهي ولكنهم يقلدون كبارهم وفيه أن منهم من يعرف بطلان ذلك ولكن يمنعهم حب الرياسة وتقليد الآباء أن يعترفوا به‏.‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إلى مَا أَنزَلَ الله وَإِلَى الرسول قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءنَا‏}‏ بيان لقصور عقولهم وانهماكهم في التقليد وأن لا سند لهم سواه‏.‏ ‏{‏أُوَلَواْ كَانَ ءَابَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ‏}‏ الواو للحال والهمزة دخلت عليها لإِنكار الفعل على هذه الحال، أي أحسبهم ما وجدوا عليه آباءهم ولو كانوا جهلة ضالين، والمعنى أن الاقتداء إنما يصح بمن علم أنه عالم مهتد وذلك لا يعرف إلا بالحجة فلا يكفي التقليد‏.‏

‏{‏يأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ‏}‏ أي إحفظوها والزموا إصلاحها، والجار مع المجرور جعل اسماً لإِلزموا ولذلك نصب أنفسكم‏.‏ وقرئ بالرفع على الابتداء‏.‏ ‏{‏لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم‏}‏ لا يضركم الضلال إذا كنتم مهتدين، ومن الاهتداء أن ينكر المنكر حسب طاقته كما قال عليه الصلاة والسلام ‏"‏ من رأى منكم منكراً واستطاع أن يغيره بيده فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه ‏"‏‏.‏ والآية نزلت لما كان المؤمنون يتحسرون على الكفرة ويتمنون إيمانهم، وقيل كان الرجل إذا أسلم قالوا له سفهت آباءك فنزلت‏.‏ و‏{‏لاَ يَضُرُّكُمْ‏}‏ يحتمل الرفع على أنه مستأنف ويؤيده أن قرئ «لا يضيركم» والجزم على الجواب أو النهي لكنه ضمت الراء إتباعاً لضمة الضاد المنقولة إليها من الراء المدغمة وتنصره قراءة من قرأ ‏{‏لاَ يَضُرُّكُمْ‏}‏ بالفتح، و‏{‏لاَ يَضُرُّكُمْ‏}‏ بكسر الضاد وضمها من ضاره يضيره ويضوره‏.‏ ‏{‏إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ وعد ووعيد للفريقين وتنبيه على أن أحداً لا يؤاخذ بذنب غيره‏.‏

‏{‏يِأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ شهادة بَيْنِكُمْ‏}‏ أي فيما أمرتم شهادة بينكم، والمراد بالشهادة الإِشهاد في الوصية وإضافتها إلى الظرف على الاتساع وقرئ ‏{‏شَهَادَةً‏}‏ بالنصب والتنوين على ليقم‏.‏ ‏{‏إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت‏}‏ إذا شارفه وظهرت أماراته وهو ظرف للشهادة‏.‏

‏{‏حِينَ الوصية‏}‏ بدل منه وفي إبداله تنبيه على أن الوصية مما ينبغي أن لا يتهاون فيه أو ظرف حضر‏.‏ ‏{‏اثنان‏}‏ فاعل شهادة ويجوز أن يكون خبرها على حذف المضاف‏.‏ ‏{‏ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ‏}‏ أي من أقاربكم أو من المسلمين وهما صفتان لاثنان‏.‏ ‏{‏أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ‏}‏ عطف على اثنان، ومن فسر الغير بأهل الذمة جعله منسوخاً فإن شهادته على المسلم لا تسمع إجماعاً‏.‏ ‏{‏إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِى الأرض‏}‏ أي سافرتم فيها‏.‏ ‏{‏فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الموت‏}‏ أي قاربتم الأجل‏.‏ ‏{‏تَحْبِسُونَهُمَا‏}‏ تقفونهما وتصبرونهما صفة لآخران والشرط بجوابه المحذوف المدلول عليه بقوله أو آخران من غيركم اعتراض، فائدته الدلالة على أنه ينبغي أن يشهد اثنان منكم فإن تعذر كما في السفر فمن غيركم، أو استئناف كأنه قيل كيف نعمل إن ارتبنا بالشاهدين فقال تحبسونهما‏.‏ ‏{‏مِنْ بَعْدِ الصَّلاَةِ‏}‏ صلاة العصر، لأنه وقت اجتماع الناس وتصادم ملائكة الليل وملائكة النهار‏.‏ وقيل أي صلاة كانت‏.‏ ‏{‏فَيُقْسِمَانِ بالله إِنِ ارتبتم‏}‏ إن ارتاب الوارث منكم‏.‏ ‏{‏لاَ نَشْتَرِى بِهِ ثَمَناً‏}‏ مقسم عليه، وإن ارتبتم اعتراض يفيد اختصاص القسم بحال الارتياب‏.‏ والمعنى لا نستبدل بالقسم أو بالله عرضاً من الدنيا أي لا نحلف بالله كاذباً لطمع‏.‏ ‏{‏وَلَوْ كَانَ ذَا قربى‏}‏ ولو كان المقسم له قريباً منا، وجوابه أيضاً محذوف أي لا نشتري‏.‏ ‏{‏وَلاَ نَكْتُمُ شهادة الله‏}‏ أي الشهادة التي أمرنا الله بإقامتها، وعن الشعبي أنه وقف على شهادة ثم ابتدأ الله بالمد على حذف حرف القسم وتعويض حرف الاستفهام منه، وروي عنه بغيره كقولهم الله لأفعلن‏.‏ ‏{‏إِنَّا إِذَاً لَّمِنَ الآثمين‏}‏ أي إن كتمنا‏.‏ وقرئ لَمِلاْثِمِين بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام وإدغام النون فيها‏.‏

‏{‏فَإِنْ عُثِرَ‏}‏ فإن اطلع‏.‏ ‏{‏على أَنَّهُمَا استحقا إِثْماً‏}‏ أي فعلا ما أوجب إثماً كتحريف‏.‏ ‏{‏فَآخَرَانِ‏}‏ فشاهدان آخران‏.‏ ‏{‏يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا مِنَ الذين استحق عَلَيْهِمُ‏}‏ من الذين جنى عليهم وهم الورثة‏.‏ وقرأ حفص «استحق» على البناء للفاعل وهو الأوليان‏.‏ ‏{‏الأوليان‏}‏ الاحقان بالشهادة لقرابتهما ومعرفتهما وهو خبر محذوف أي‏:‏ هما الأوليان أو خبر ‏{‏ءَاخَرَانِ‏}‏ أو مبتدأ خبره آخران، أو بدل منهما أو من الضمير في يقومان‏.‏ وقرأ حمزة ويعقوب وأبو بكر عن عاصم «الأولين» على أنه صفة للذين، أو بدل منه أي من الأولين الذين استحق عليهم‏.‏ وقرئ «الأولين» على التثنية وانتصابه على المدح والأولان وإعرابه إعراب الأوليان‏.‏ ‏{‏فَيُقْسِمَانِ بالله لشهادتنا أَحَقُّ مِن شهادتهما‏}‏ أصدق منها وأولى بأن تقبل‏.‏ ‏{‏وَمَا اعتدينا‏}‏ وما تجاوزنا فيها الحق‏.‏ ‏{‏إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الظالمين‏}‏ الواضعين الباطل موضع الحق، أو الظالمين أنفسهم إن اعتدينا‏.‏ ومعنى الآيتين أن المحتضر إذا أراد الوصية ينبغي أن يشهد عدلين من ذوي نسبه أو دينه على وصيته، أو يوصي إليهما احتياطاً فإن لم يجدهما بأن كان في سفر فآخرين من غيرهم، ثم إن وقع نزاع وارتياب أقسما على صدق ما يقولان بالتغليظ في الوقت، فإن اطلع على أنهما كذبا بأمارة أو مظنة حلف آخران من أولياء الميت، والحكم منسوخ إن كان الاثنان شاهدين فإنه لا يخلف الشاهد ولا يعارض يمينه بيمين الوارث وثابت إن كانا وصيين ورد اليمين إلى الورثة إما لظهور خيانة الوصيين فإن تصديق الوصي باليمين لأمانته أو لتغيير الدعوى‏.‏

إذ روي أن تميماً الداري وعدي بن يزيد خرجا إلى الشام للتجارة وكانا حينئذ نصرانيين ومعهما بديل مولى عمرو بن العاص وكان مسلماً، فلما قدموا الشام مرض بديل فدون ما معه في صحيفة وطرحها في متاعه ولم يخبرهما به، وأوصى إليهما بأن يدفعا متاعه إلى أهله ومات، ففتشاه وأخذا منه إناء من فضة فيه ثلثمائة مثقال منقوشاً بالذهب فغيباه، فأصاب أهله الصحيفة فطالبوهما بالإِناء فجحدا فترافعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الذين آمَنُوا‏}‏ الآية، «فحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلاة العصر عند المنبر وخلى سبيلهما» ثم وجد الإِناء في أيديهما فأتاهما بنو سهم في ذلك فقالا‏:‏ قد اشتريناه منه ولكن لم يكن لنا عليه بينة فكرهنا أن نقربه فرفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت ‏{‏فَإِنْ عُثِرَ‏}‏ فقام عمرو بن العاص والمطلب بن أبي وداعة السهميان فحلفا واستحقاه‏.‏ ولعل تخصيص العدد فيهما لخصوص الواقعة‏.‏

‏{‏ذلك‏}‏ أي الحكم الذي تقدم أو تحليف الشاهد‏.‏ ‏{‏أدنى أَن يَأْتُواْ بالشهادة على وَجْهِهَا‏}‏ على نحو ما حملوها من غير تحريف وخيانة فيها ‏{‏أَوْ يخافوا أَن تُرَدَّ أيمان بَعْدَ أيمانهم‏}‏ أن ترد اليمين على المدعين‏.‏ بعد أيمانهم فيفتضحوا بظهور الخيانة واليمين الكاذبة وإنما جمع الضمير لأنه حكم يعم الشهود كلهم‏.‏ ‏{‏واتقوا الله واسمعوا‏}‏ ما توصون به سمع إجابة‏.‏ ‏{‏والله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين‏}‏ أي فإن لم تتقوا ولم تسمعوا كنتم قوماً فاسقين ‏{‏والله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين‏}‏ أي لا يهديهم إلى حجة أو إلى طريق الجنة‏.‏ فقوله تعالى‏:‏

‏{‏يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل‏}‏ ظرف له‏.‏ وقيل بدل من مفعول واتقوا بدل الاشتمال، أو مفعول واسمعوا على حذف المضاف أي واسمعوا خبر يوم جمعهم، أو منصوب بإضمار اذكر‏.‏ ‏{‏فَيَقُولُ‏}‏ أي للرسل‏.‏ ‏{‏مَاذَا أَجَبْتُمُ‏}‏ أي إجابة أجبتم، على أن ماذا في موضع المصدر، أو بأي شيء أجبتم فحذف الجار، وهذا السؤال لتوبيخ قومهم كما أن سؤال الموؤدة لتوبيخ الوائد ولذلك ‏{‏قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا‏}‏ أي لا علم لنا بما لست تعلمه‏.‏ ‏{‏إِنَّكَ أَنتَ علام الغيوب‏}‏ فتعلم ما نعلمه مما أجابونا وأظهروا لنا وما لا نعلم مما أضمروا في قلوبهم، وفيه التشكي منهم ورد الأمر إلى علمه بما كابدوا منهم‏.‏ وقيل المعنى لا علم لنا إلى جنب علمك، أو لا علم لنا بما أحدثوا بعدنا وإنما الحكم للخاتمة‏.‏ وقرئ ‏{‏علام‏}‏ بالنصب على أن الكلام قد تم بقوله ‏{‏إِنَّكَ أَنتَ‏}‏، أي إنك أنت الموصوف بصفاتك المعروفة وعلام منصوب على الاختصاص أو النداء‏.‏ وقرأ أبو بكر وحمزة الغيوب بكسر الغين حيث وقع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏110‏]‏

‏{‏إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏110‏)‏‏}‏

‏{‏إِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ اذكر نِعْمَتِى عَلَيْكَ وعلى والدتك‏}‏ بدل من يوم يجمع وهو على طريقة ‏{‏وَنَادَى أصحاب الجنة‏}‏ والمعنى أنه سبحانه وتعالى يوبخ الكفرة يومئذ بسؤال الرسل عن إجابتهم وتعديد ما أظهر عليهم من الآيات فكذبتهم طائفة وسموهم سحرة، وغلا آخرون فاتخذوهم آلهة‏.‏ أو نصب بإضمار اذكر‏.‏ ‏{‏إِذْ أَيَّدتُّكَ‏}‏ قويتك وهو ظرف لنعمتي أو حال منه وقرئ «آيدتك»‏.‏ ‏{‏بِرُوحِ القدس‏}‏ بجبريل عليه الصلاة والسلام، أو بالكلام الذي يحيا به الدين، أو النفس حياة أبدية ويطهر من الآثام ويؤيده قوله‏:‏ ‏{‏تُكَلّمُ الناس فِى المهد وَكَهْلاً‏}‏ أي كائناً في المهد وكهلاً، والمعنى تكلمهم في الطفولة والكهولة على سواء، والمعنى إلحاق حاله في الطفولية بحال الكهولية في كمال العقل والتكلم، وبه استدل على أنه سينزل فإنه رفع قبل أن يكتهل‏.‏ ‏{‏وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير بِإِذْنِى فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِى وَتُبْرِئ الأَكْمَه وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ المَوْتَى بِإِذْنِي‏}‏ سبق تفسيره في سورة «آل عمران»‏.‏ وقرأ نافع ويعقوب «طائراً» ويحتمل الإِفراد والجمع كالباقر‏.‏ ‏{‏وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِى إسراءيل عَنكَ‏}‏ يعني اليهود حين هموا بقتله‏.‏ ‏{‏إِذْ جِئْتَهُمْ بالبينات‏}‏ ظرف لكففت‏.‏ ‏{‏فَقَالَ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ‏}‏ أي ما هذا الذي جئت به إلا سحر مبين‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي إلا «ساحر» فالإِشارة إلى عيسى عليه الصلاة والسلام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏111‏]‏

‏{‏وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آَمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آَمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ‏(‏111‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين‏}‏ أي أمرتهم على ألسنة رسلي‏.‏ ‏{‏أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي‏}‏ يجوز أن تكون أن مصدرية وأن تكون مفسرة‏.‏ ‏{‏قَالُواْ ءامَنَّا واشهد بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ‏}‏ مخلصون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏112‏]‏

‏{‏إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏112‏)‏‏}‏

‏{‏إِذْ قَالَ الحواريون ياعيسى ابن مَرْيَمَ‏}‏ منصوب بالذكر، أو ظرف لقالوا فيكون تنبيهاً على أن ادعاءهم الإِخلاص مع قولهم‏.‏ ‏{‏هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مّنَ السماء‏}‏ لم يكن بعد عن تحقيق واستحكام معرفة‏.‏ وقيل هذه الاستطاعة على ما تقتضيه الحكمة والإِرادة لا على ما تقتضيه القدرة‏.‏ وقيل المعنى هل يطيع ربك أي هل يجيبك، واستطاع بمعنى أطاع كاستجاب وأجاب‏.‏ وقرأ الكسائي «تستطيع ربك» أي سؤال ربك، والمعنى هل تسأله ذلك من غير صارف‏.‏ والمائدة الخوان إذا كان عليه الطعام، من مادة الماء يميد إذا تحرك، أو من مادة إذا أعطاه كأنها تميد من تقدم إليه ونظيرها قولهم شجرة مطعمة‏.‏ ‏{‏قَالَ اتقوا الله‏}‏ من أمثال هذا السؤال‏.‏ ‏{‏إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ بكمال قدرته وصحة نبوتي، أو صدقتم في ادعائكم الإِيمان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏113‏]‏

‏{‏قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ ‏(‏113‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا‏}‏ تمهيد عذر وبيان لما دعاهم إلى السؤال وهو أن يتمتعوا بالأكل منها‏.‏ ‏{‏وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا‏}‏ بانضمام علم المشاهدة إلى علم الاستدلال بكمال قدرته سبحانه وتعالى‏.‏ ‏{‏وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا‏}‏ في ادعاء النبوة، أو أن الله يجيب دعوتنا‏.‏ ‏{‏وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشاهدين‏}‏ إذا استشهدتنا أو من الشاهدين للعين دون السامعين للخبر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏114- 115‏]‏

‏{‏قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآَخِرِنَا وَآَيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ‏(‏114‏)‏ قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ‏(‏115‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ‏}‏ لما رأى أن لهم غرضاً صحيحاً في ذلك، أو أنهم لا يقلعون عنه فأراد إلزامهم الحجة بكمالها‏.‏ ‏{‏اللهم رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مّنَ السماء تَكُونُ لَنَا عِيداً‏}‏ أي يكون يوم نزولها عيداً نعظمه‏.‏ وقيل العيد السرور العائد ولذلك سمي يوم العيد عيداً‏.‏ وقرئ «تكن» على جواب الأمر‏.‏ ‏{‏لأَوَّلِنَا وَءَاخِرِنَا‏}‏ بدل من لنا بإعادة العامل أي عيداً لمتقدمينا ومتأخرينا‏.‏ روي‏:‏ أنها نزلت يوم الأحد فلذلك اتخذه النصارى عيداً‏.‏ وقيل يأكل منها أولنا وآخرنا‏.‏ وقرئ «لأولانا وأخرانا» بمعنى الأمة أو الطائفة‏.‏ ‏{‏وَءَايَةً‏}‏ عطف على «عيداً»‏.‏ ‏{‏مِنكَ‏}‏ صفة لها أي آية كائنة منك دالة على كمال قدرتك وصحة نبوتي‏.‏ ‏{‏وارزقنا‏}‏ المائدة والشكر عليها‏.‏ ‏{‏وَأَنتَ خَيْرُ الرازقين‏}‏ أي خير من يرزق لأنه خالق الرزق ومعطيه بلا عوض‏.‏ ‏{‏قَالَ الله إِنّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ‏}‏ إجابة إلى سؤالكم‏.‏ وقرأ نافع وابن عامر وعاصم ‏{‏مُنَزِّلُهَا‏}‏ بالتشديد‏.‏ ‏{‏فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنّى أُعَذّبُهُ عَذَاباً‏}‏ أي تعذيباً ويجوز أن يجعل مفعولاً به على السعة‏.‏ ‏{‏لاَّ أُعَذِّبُهُ‏}‏ الضمير للمصدر، أو للعذاب إن أريد ما يعذب به على حذف حرف الجر‏.‏ ‏{‏أَحَداً مِّنَ العالمين‏}‏ أي من عالمي زمانهم أو للعالمين مطلقاً فإنهم مسخوا قردة وخنازير، ولم يعذب بمثل ذلك غيرهم‏.‏ روي‏:‏ أنها نزلت سفرة حمراء بين غمامتين وهم ينظرون إليها حتى سقطت بين أيديهم، فبكى عيسى عليه الصلاة والسلام وقال‏:‏ اللهم اجعلني من الشاكرين اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها مثلة وعقوبة، ثم قام فتوضأ وصلى وبكى، ثم كشف المنديل وقال‏:‏ بسم الله خير الرازقين، فإذا سمكة مشوية بلا فلوس ولا شوك تسيل دسماً وعند رأسها ملح وعند ذنبها خل وحولها من ألوان البقول ما خلا الكراث، وإذا خمسة أرغفة على واحد منها زيتون وعلى الثاني عسل وعلى الثالث سمن وعلى الرابع جبن وعلى الخامس قديد فقال شمعون‏:‏ يا روح الله أمن طعام الدنيا أم من طعام الآخرة قال‏:‏ ليس منهما ولكن اخترعه الله سبحانه وتعالى بقدرته كلوا ما سألتم واشكروا يمددكم الله ويزدكم من فضله، فقالوا‏:‏ يا روح الله لو أريتنا من هذه الآية آية أخرى فقال‏:‏ يا سمكة احيي بإذن الله تعالى فاضطربت ثم قال لها عودي كما كنت فعادت مشوية ثم طارت المائدة، ثم عصوا بعدها فمسخوا‏.‏ وقيل كانت تأتيهم أربعين يوماً غباً يجتمع عليها الفقراء والأغنياء والصغار والكبار يأكلون حتى إذا فاء الفيء طارت وهم ينظرون في ظلها، ولم يأكل منها فقير إلا غني مدة عمره، ولا مريض إلا بريء ولم يمرض أبداً، ثم أوحي الله تعالى إلى عيسى عليه السلام أن اجعل مائدتي في الفقراء والمرضى دون الأغنياء والأصحاء، فاضطرب الناس لذلك فمسخ منهم ثلاثة وثمانون رجلاً‏.‏

وقيل لما وعد الله إنزالها بهذه الشريطة استعفوا وقالوا‏:‏ لا نريد فلم تنزل‏.‏ وعن مجاهد أن هذا مثل ضربه الله لمقترحي المعجزات‏.‏ وعن الصوفية‏:‏ المائدة ههنا عبارة عن حقائق المعارف، فإنها غذاء الروح كما أن الأطعمة غذاء البدن وعلى هذا فلعل الحال أنهم رغبوا في حقائق لم يستعدوا للوقوف عليها، فقال لهم عيسى عليه الصلاة والسلام‏:‏ إن حصلتما الإِيمان فاستعملوا التقوى حتى تتمكنوا من الاطلاع عليها، فلم يقلعوا عن السؤال وألحوا فيه فسأل لأجل اقتراحهم، فبين الله سبحانه وتعالى أن إنزاله سهل ولكن فيه خطر وخوف عاقبة، فإن السالك إذا انكشف له ما هو أعلى من مقامه لعله لا يحتمله ولا يستقر له فيضل به ضلالاً بعيداً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏116‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ‏(‏116‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمّيَ إلهين مِن دُونِ الله‏}‏ يريد به توبيخ الكفرة وتبكيتهم، ومن دون الله صفة لإِلهين أو صلة اتخذوني، ومعنى دون إما المغايرة فيكون فيه تنبيه على أن عبادة الله سبحانه وتعالى مع عبادة غيره كلا عبادة، فمن عبده مع عبادتهما كأنه عبدهما ولم يعبده أو للقصور، فإنهم لم يعتقدوا أنهما مستقلان باستحقاق العبادة وإنما زعموا أن عبادتهما توصل إلى عبادة الله سبحانه وتعالى وكأنه قيل‏:‏ اتخذوني وأمي إلهين متوصلين بنا إلى الله سبحانه وتعالى‏.‏ ‏{‏قَالَ سبحانك‏}‏ أنزهك تنزيهاً من أن يكون لك شريك‏.‏ ‏{‏مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقّ‏}‏ ما ينبغي لي أن أقول قولاً لا يحق لي أن أقوله‏.‏ ‏{‏إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ‏}‏ تعلم ما أخفيه في نفسي كما تعلم ما أعلنه، ولا أعلم ما تخفيه من معلوماتك‏.‏ وقوله في نفسك للمشاكلة وقيل المراد بالنفس الذات‏.‏ ‏{‏إِنَّكَ أَنتَ علام الغيوب‏}‏ تقرير للجملتين باعتبار منطوقه ومفهومه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏117- 120‏]‏

‏{‏مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ‏(‏117‏)‏ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏118‏)‏ قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏119‏)‏ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏120‏)‏‏}‏

‏{‏مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ‏}‏ تصريح بنفي المستفهم عنه بعد تقديم ما يدل عليه‏.‏ ‏{‏أَنِ اعبدوا الله رَبّي وَرَبَّكُمْ‏}‏ عطف بيان للضمير في به، أو بدل منه وليس من شرط البدل جواز طرح المبدل منه مطلقاً ليلزم بقاء الموصول بلا راجع، أو خبر مضمر أو مفعوله مثل هو أو أعني، ولا يجوز إبداله من ما أمرتني به فإن المصدر لا يكون مفعول القول ولا أن تكون أن مفسرة لأن الأمر مسند إلى الله سبحانه وتعالى، وهو لا يقول اعبدوا الله ربي وربكم والقول لا يفسر بل الجملة تحكي بعده إلا أن يؤول القول بالأمر فكأن قيل‏:‏ ما أمرتهم إلا بما أمرتني به أن ‏{‏اعبدوا الله‏}‏‏.‏ ‏{‏وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ‏}‏ أي رقيباً عليهم أمنعهم أن يقولوا ذلك ويعتقدوه، أو مشاهداً لأحوالهم من كفر وإيمان‏.‏ ‏{‏فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي‏}‏ بالرفع إلى السماء لقوله‏:‏ ‏{‏إِنّي مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ‏}‏ والتوفي أخذ الشيء وافياً، والموت نوع منه قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا والتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا‏}‏ ‏{‏كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ‏}‏ المراقب لأحوالهم فتمنع من أردت عصمته من القول به بالارشاد إلى الدلائل والتنبيه عليها بإرسال الرسل وإنزال الآيات‏.‏ ‏{‏وَأَنتَ على كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ‏}‏ مطلع عليه مراقب له‏.‏

‏{‏إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ‏}‏ أي إن تعذبهم فإنك تعذب عبادك ولا اعتراض على المالك المطلق فيما يفعل بملكه، وفيه تنبيه على أنهم استحقوا ذلك لأنهم عبادك وقد عبدوا غيرك‏.‏ ‏{‏وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم‏}‏ فلا عجز ولا استقباح فإنك القادر القوي على الثواب والعقاب، الذي لا يثيب ولا يعاقب إلا عن حكمة وصواب فإن المغفرة مستحسنة لكل مجرم، فإن عذبت فعدل وإن غفرت ففضل‏.‏ وعدم غفران الشرك بمقتضى الوعيد فلا امتناع فيه لذاته ليمنع الترديد والتعليق بأن‏.‏

‏{‏قَالَ الله هذا يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ‏}‏ وقرأ نافع ‏{‏يَوْم‏}‏ بالنصب على أنه ظرف لقال وخبر هذا محذوف، أو ظرف مستقر وقع خبراً والمعنى هذا الذي مر من كلام عيسى واقع يوم ينفع‏.‏ وقيل إنه خبر ولكن بني على الفتح بإضافته إلى الفعل وليس بصحيح، لأن المضاف إليه معرب والمراد بالصدق الصدق في الدنيا فإن النافع ما كان حال التكليف‏.‏ ‏{‏لَهُمْ جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذلك الفوز العظيم‏}‏ بيان للنفع‏.‏ ‏{‏للَّهِ مُلْكُ السموات والأرض وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ تنبيه على كذب النصارى وفساد دعواهم في المسيح وأمه، وإنما لم يقل ومن فيهن تغليباً للعقلاء وقال ‏{‏وَمَا فِيهِنَّ‏}‏ اتباعاً لهم غير أولي العقل إعلاماً بأنهم في غاية القصور عن معنى الربوبية والنزول عن رتبة العبودية، وإهانة لهم وتنبيهاً على المجانسة المنافية للألوهية، ولأن ما يطلق متناولاً للأجناس كلها فهو أولى بإرادة العموم‏.‏ عن النبي صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة المائدة أعطي من الأجر عشر حسنات ومحي عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات بعدد كل يهودي ونصراني يتنفس في الدنيا»‏.‏

سورة الأنعام

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏{‏الحمد للَّهِ الذى خَلَقَ السموات وَالأَرْضَ‏}‏ أخبر بأنه سبحانه وتعالى حقيق بالحمد، ونبه على أنه المستحق له على هذه النعم الجسام حمد أو لم يحمد، ليكون حجة على الذين هم بربهم يعدلون، وجمع السموات دون الأرض وهي مثلهن لأن طبقاتها مختلفة بالذات متفاوتة الآثار والحركات، وقدمها لشرفها وعلو مكانها وتقدم وجودها‏.‏ ‏{‏وَجَعَلَ الظلمات والنور‏}‏ أنشأهما، والفرق بين خلق وجعل الذي له مفعول واحد أن الخلق فيه معنى التقدير والجعل فيه معنى التضمن‏.‏ ولذلك عبر عن إحداث النور والظلمة بالجعل تنبيهاً على أنهما لا يقومان بأنفسهما كما زعمت الثنوية، وجمع الظلمات لكثرة أسبابها والأجرام الحاملة لها، أو لأن المراد بالظلمة الضلال، وبالنور الهدى والهدى واحد والضلال متعدد، وتقديمها لتقدم الإِعدام على الملكات‏.‏ ومن زعم أن الظلمة عرض يضاد النور احتج بهذه الآية ولم يعلم أن عدم الملكة كالعمى ليس صرف العدم حتى لا يتعلق به الجعل‏.‏ ‏{‏ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ‏}‏ عطف على قوله الحمد لله على معنى أن الله سبحانه وتعالى حقيق بالحمد على ما خلقه نعمة على العباد، ثم الذين كفروا به يعدلون فيكفرون نعمته، ويكون بربهم تنبيهاً على أنه خلق هذه الأشياء أسباباً لتكونهم وتعيشهم، فمن حقه أن يحمد عليها ولا يكفر، أو على قوله خلق على معنى أنه سبحانه وتعالى خلق ما لا يقدر عليه أحد سواه، ثم هم يعدلون به ما لا يقدر على شيء منه‏.‏ ومعنى ثم‏:‏ استبعاد عدولهم بعد هذا البيان، والباء على الأول متعلقة بكفروا وصلة يعدلون محذوفة أي يعدلون عنه ليقع الإِنكار على نفس الفعل، وعلى الثاني متعلقة ب ‏{‏يَعْدِلُونَ‏}‏ والمعنى أن الكفار يعدلون بربهم الأوثان أي يسوونها به سبحانه وتعالى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏2- 5‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ ‏(‏2‏)‏ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ‏(‏3‏)‏ وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ‏(‏4‏)‏ فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏هُوَ الذى خَلَقَكُمْ مّن طِينٍ‏}‏ أي ابتدأ خلقكم منه، فإنه المادة الأولى وأن آدم الذي هو أصل البشر خلق منه، أو خلق أباكم فحذف المضاف‏.‏ ‏{‏ثُمَّ قَضَى أَجَلاً‏}‏ أجل الموت‏.‏ ‏{‏وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ‏}‏ أجل القيامة‏.‏ وقيل الأول ما بين الخلق والموت، والثاني ما بين الموت والبعث، فإن الأجل كما يطلق لآخر المدة يطلق لجملتها‏.‏ وقيل الأول النوم والثاني الموت‏.‏ وقيل الأول لمن مضى والثاني لمن بقي ولمن يأتي، وأجل نكرة خصصت بالصفة ولذلك استغني عن تقديم الخبر والاستئناف به لتعظيمه ولذلك نكر ووصف بأنه مسمى أي مثبت معين لا يقبل التغيير، وأخبر عنه بأنه عند الله لا مدخل لغيره فيه يعلم ولا قدرة ولأنه المقصود بيانه‏.‏ ‏{‏ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ‏}‏ استبعاد لامترائهم بعد ما ثبت أنه خالقهم وخالق أصولهم ومحييهم إلى آجالهم، فإن من قدر على خلق المواد وجمعها وإيداع الحياة فيها وإبقائها ما يشاء كان أقدر على جمع تلك المواد وإحيائها ثانياً، فالآية الأولى دليل التوحيد والثانية دليل البعث، والامتراء الشك وأصله المري وهو استخراج اللبن من الضرع‏.‏

‏{‏وَهُوَ الله‏}‏ الضمير لله سبحانه وتعالى و‏{‏الله‏}‏ خبره‏.‏ ‏{‏فِي السموات وَفِى الأرض‏}‏ متعلق باسم ‏{‏الله‏}‏ والمعنى هو المستحق للعبادة فيهما لا غير، كقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الذي فِي السماء إله وَفِي الأرض إله‏}‏ أو بقوله‏:‏ ‏{‏يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ‏}‏ والجملة خبر ثان، أو هي الخبر و‏{‏الله‏}‏ بدل، ويكفي لصحة الظرفية كون المعلوم فيهما كقولك رميت الصيد في الحرم إذا كنت خارجه والصيد فيه أو ظرف مستقر وقع خبراً، بمعنى أنه سبحانه وتعالى لكمال علمه بما فيهما كأنه فيهما، ويعلم سركم وجهركم بيان وتقرير له وليس متعلقاً بالمصدر لأن صفته لا تتقدم عليه‏.‏ ‏{‏وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ‏}‏ من خير أو شر فيثيب عليه ويعاقب، ولعله أريد بالسر والجهر ما يخفى وما يظهر من أحوال الأنفس وبالمكتسب أعمال الجوارح‏.‏

‏{‏وَمَا تَأْتِيهِم مّنْ ءايَةٍ مّنْ ءايات رَبّهِمْ‏}‏ ‏{‏مِنْ‏}‏ الأولى مزيدة للاستغراق والثانية للتبعيض، أي‏:‏ ما يظهر لهم دليل قط من الأدلة أو معجزة من المعجزات أو آية من آيات القرآن‏.‏ ‏{‏إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ‏}‏ تاركين للنظر فيه غير ملتفتين إليه‏.‏

‏{‏فَقَدْ كَذَّبُواْ بالحق لَمَّا جَاءهُمْ‏}‏ يعني القرآن وهو كاللازم ما قبله كأنه قيل‏:‏ إنهم لما كانوا معرضين عن الآيات كلها كذبوا به لما جاءهم، أو كدليل عليه على معنى أنهم لما أعرضوا عن القرآن وكذبوا به وهو أعظم الآيات فكيف لا يعرضون عن غيره، ولذلك رتب عليه بالفاء‏.‏ ‏{‏فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاء مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ‏}‏ أي سيظهر لهم ما كانوا به يستهزئون عند نزول العذاب بهم في الدنيا والآخرة، أو عند ظهور الإِسلام وارتفاع أمره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ‏}‏ أي من أهل زمان، والقرن مدة أغلب أعمار الناس وهي سبعون سنة‏.‏ وقيل ثمانون‏.‏ وقيل القرن أهل عصر فيه نبي أو فائق في العلم‏.‏ قلت المدة أو كثرت واشتقاقه من قرنت‏.‏ ‏{‏مكناهم فِي الأرض‏}‏ جعلنا لهم فيها مكاناً وقررناهم فيها وأعطيناهم من القوى والآلات ما تمكنوا بها من أنواع التصرف فيها‏.‏ ‏{‏مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ‏}‏ ما لم نجعل لكم من السعة وطول المقام يا أهل مكة ما لم نعطكم من القوة والسعة في المال والاستظهار في العدد والأسباب‏.‏ ‏{‏وَأَرْسَلْنَا السماء عَلَيْهِم‏}‏ أي المطر أو السحاب، أو المظلة إن مبدأ المطر منها‏.‏ ‏{‏مُّدْرَاراً‏}‏ أي مغزاراً‏.‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا الأنهار تَجْرِى مِن تَحْتِهِمْ‏}‏ فعاشوا في الخصب والريف بين الأنهار والثمار‏.‏ ‏{‏فأهلكناهم بِذُنُوبِهِمْ‏}‏ أي لم يغن ذلك عنهم شيئاً‏.‏ ‏{‏وَأَنشَأْنَا‏}‏ وأحدثنا‏.‏ ‏{‏مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ‏}‏ بدلاً منهم، والمعنى أنه سبحانه وتعالى كما قدر على أن يهلك من قبلكم كعاد وثمود وينشئ مكانهم آخرين يعمر بهم بلاده يقدر أن يفعل ذلك بكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كتابا فِى قِرْطَاسٍ‏}‏ مكتوباً في ورق‏.‏ ‏{‏فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ‏}‏ فمسوه، وتخصيص اللمس لأن التزوير لا يقع فيه فلا يمكنهم أن يقولوا إنما سكرت أبصارنا، ولأنه يتقدمه الإِبصار حيث لا مانع، وتقييده بالأيدي لدفع التجوز فإنه قد يتجوز به للفحص كقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّا لَمَسْنَا السماء‏}‏ ‏{‏لَقَالَ الذين كَفَرُواْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ‏}‏ تعنتاً وعناداً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ‏}‏ هلا أنزل معه ملك يكلمنا أنه نبي كقوله‏:‏ ‏{‏لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً‏}‏‏.‏ ‏{‏وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِىَ الأمر‏}‏ جواب لقولهم وبيان هو المانع مما اقترحوه والخلل فيه، والمعنى أن الملك لو أنزل بحيث عاينوه كما اقترحوا لحق إهلاكهم فإن سنة الله قد جرت بذلك فيمن قبلهم‏.‏ ‏{‏ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ‏}‏ بعد نزوله طرفة عين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَوْ جعلناه مَلَكاً لجعلناه رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ‏}‏ جواب ثان إن جعل الهاء للمطلوب، وإن جعل للرسول فهو جواب اقتراح ثان، فإنهم تارة يقولون لولا أنزل عليه ملك، وتارة يقولون لو شاء ربنا لأنزل ملائكة‏.‏ والمعنى ولو جعلنا قريناً لك ملكاً يعاينونه أو الرسول ملكاً لمثلناه رجلاً كما مثل جبريل في صورة دحية الكلبي، فإن القوة البشرية لا تقوى على رؤية الملك في صورته، وإنما رآهم كذلك الأفراد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بقوتهم القدسية، وللبسنا جواب محذوف أي ولو جعلناه رجلاً للبسنا أي‏:‏ لخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم فيقولون ما هذا إلا بشر مثلكم‏.‏ وقرئ «لبسنا» بلام واحدة و«لبسنا» بالتشديد للمبالغة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدِ استهزئ بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ‏}‏ تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما يرى من قومه‏.‏ ‏{‏فَحَاقَ بالذين سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ‏}‏ فأحاط بهم الذي كانوا يستهزئون به حيث أهلكوا لأجله، أو فنزل بهم وبال استهزائهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ سِيرُواْ فِى الأرض ثُمَّ انظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المكذبين‏}‏ كيف أهلكهم الله بعذاب الاستئصال كي تعتبروا، والفرق بينه وبين قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ سِيرُواْ فِى الأرض فَاْنظُرُواْ‏}‏ أن السير ثمت لأجل النظر ولا كذلك ها هنا، ولذلك قيل معناه إباحة السير للتجارة وغيرها وإيجاب النظر في آثار الهالكين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 20‏]‏

‏{‏قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏12‏)‏ وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏13‏)‏ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏14‏)‏ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏15‏)‏ مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ‏(‏16‏)‏ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏17‏)‏ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ‏(‏18‏)‏ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آَلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ‏(‏19‏)‏ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏قُل لّمَن مَّا فِي السموات والأرض‏}‏ خلقاً وملكاً، وهو سؤال تبكيت‏.‏ ‏{‏قُل لِلَّهِ‏}‏ تقريراً لهم وتنبيهاً على أنه المتعين للجواب بالإِنفاق، بحيث لا يمكنهم أن يذكروا غيره‏.‏ ‏{‏كَتَبَ على نَفْسِهِ الرحمة‏}‏ التزمها تفضلاً وإحساناً والمراد بالرحمة ما يعم الدارين ومن ذلك الهداية إلى معرفته، والعلم بتوحيده بنصب الأدلة، وإنزال الكتب والإِمهال على الكفر‏.‏ ‏{‏لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلى يَوْمِ القيامة‏}‏ استئناف وقسم للوعيد على إشراكهم وإغفالهم النظر أي‏:‏ ليجمعنكم في القبور مبعوثين إلى يوم القيامة، فيجازيكم على شرككم‏.‏ أو في يوم القيامة وإلى بمعنى في‏.‏ وقيل بدل من الرحمة بدل البعض فإنه من رحمته بعثه إياكم وإنعامه عليكم‏.‏ ‏{‏لاَ رَيْبَ فِيهِ‏}‏ في اليوم أو الجمع‏.‏ ‏{‏الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم‏}‏ بتضييع رأس مالهم‏.‏ وهو الفطرة الأصلية والعقل السليم، وموضع الذين نصب على الذم أو رفع على الخبر أي‏:‏ وأنتم الذين أو على الابتداء والخبر‏.‏ ‏{‏فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ والفاء للدلالة على أن عدم إيمانهم مسبب عن خسرانهم، فإن إبطال العقل باتباع الحواس والوهم والانهماك في التقليد وإغفال النظر أدى بهم إلى الاصرار على الكفر والامتناع من الإِيمان ‏{‏وَلَهُ‏}‏ عطف على لله‏.‏ ‏{‏مَا سَكَنَ فِى اليل والنهار‏}‏ من السكنى وتعديته بفي كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَسَكَنتُمْ فِى مساكن الذين ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ‏}‏ والمعنى ما اشتملا عليه، أو من السكون أي ما سكن فيهما وتحرك فاكتفى بأحد الضدين عن الآخر‏.‏ ‏{‏وَهُوَ السميع‏}‏ لكل مسموع‏.‏ ‏{‏العليم‏}‏ بكل معلوم فلا يخفى عليه شيء، ويجوز أن يكون وعيداً للمشركين على أقوالهم وأفعالهم‏.‏

‏{‏قُلْ أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً‏}‏ إنكار لاتخاذ غير الله ولياً لا لاتخاذ الولي‏.‏ فلذلك قدم وأولى الهمزة والمراد بالولي المعبود لأنه رد لمن دعاه إلى الشرك‏.‏ ‏{‏فَاطِرَ السموات والأرض‏}‏ مبدعهما، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏:‏ ما عرفت معنى الفاطر حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما، أنا فطرتها أي ابتدأتها‏.‏ وجره على الصفة لله فإنه بمعنى الماضي ولذلك قرئ «فطر» وقرئ بالرفع والنصب على المدح‏.‏ ‏{‏وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ‏}‏ يَرزق ولا يُرزق، وتخصيص الطعام لشدة الحاجة إليه‏.‏ وقرئ ولا يطعم بفتح الياء وبعكس الأول على أن الضمير لغير الله، والمعنى كيف أشرك بمن هو فاطر السموات والأرض ما هو نازل عن رتبة الحيوانية، وببنائهما لفاعل على أن الثاني من أنعم بمعنى استطعم، أو على معنى أنه يطعم تارة ولا يطعم أخرى كقوله‏:‏ ‏{‏يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ‏}‏ ‏{‏قُلْ إِنّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ‏}‏ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سابق أمته في الدين‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين‏}‏ وقيل لي ولا تكونَنَّ، ويجوز عطفه على قل‏.‏

‏{‏قُلْ إِنّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏ مبالغة أخرى في قطع أطماعهم، وتعريض لهم بأنهم عصاة مستوجبون للعذاب، والشرط معترض بين الفعل والمفعول به وجوابه محذوف دل عليه الجملة‏.‏

‏{‏مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ‏}‏ أي بصرف العذاب عنه‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب وأبو بكر عن عاصم ‏{‏يُصْرَفْ‏}‏ عَلَى أن الضمير فيه لله سبحانه وتعالى‏.‏ وقد قرئ بإظهاره والمفعول به محذوف، أو يومئذ بحذف المضاف‏.‏ ‏{‏فَقَدْ رَحِمَهُ‏}‏ نجاه وأنعم عليه‏.‏ ‏{‏وَذَلِكَ الفوز المبين‏}‏ أي الصرف أو الرحمة‏.‏

‏{‏وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرّ‏}‏ ببلية كمرض وفقر‏.‏ ‏{‏فَلاَ كاشف لَهُ‏}‏ فلا قادر على كشفه‏.‏ ‏{‏إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ‏}‏ بنعمة كصحة وغنى‏.‏ ‏{‏فَهُوَ على كُلّ شَيْء قَدُيرٌ‏}‏ فكان قادراً على حفظه وإدامته فلا يقدر غيره على دفعه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ‏}‏

‏{‏وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ‏}‏ تصوير لقهره وعلوه بالغلبة والقدرة‏.‏ ‏{‏وَهُوَ الحكيم‏}‏ في أمره وتدبيره‏.‏ ‏{‏الخبير‏}‏ بالعباد وخفايا أحوالهم‏.‏

‏{‏قُلْ أَىُّ شَئ أَكْبَرُ شهادة‏}‏ نزلت حين قالت قريش‏:‏ يا محمد لقد سألنا عنك اليهود والنصارى، فزعموا أن ليس لك عندهم ذكر ولا صفة فأرنا من يشهد لك أنك رسول الله‏.‏ والشيء يقع على كل موجود، وقد سبق القول فيه في سورة «البقرة»‏.‏ ‏{‏قُلِ الله‏}‏ أي الله أكبر شهادة ثم ابتدأ ‏{‏شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ‏}‏ أي هو شهيد بيني وبينكم، ويجوز أن يكون الله شهيد هو الجواب لأنه سبحانه وتعالى إذا كان الشهيد كان أكبر شيء شهادة‏.‏ ‏{‏وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا القُرْآنُ لأُنذركم بِهِ‏}‏ أي بالقرآن، واكتفى بذكر الإِنذار عن ذكر البشارة‏.‏ ‏{‏وَمَن بَلَغَ‏}‏ عطف على ضمير المخاطبين، أي لأنذركم به يا أهل مكة وسائر من بلغه من الأسود والأحمر، أو من الثقلين، أو لأنذركم به أيها الموجودون ومن بلغه إلى يوم القيامة، وفيه دليل على أن أحكام القرآن تعم الموجودين وقت نزوله ومن بعدهم، وأنه لا يؤاخذ بها من لم تبلغه‏.‏ ‏{‏أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرَى‏}‏ تقرير لهم مع إنكار واستبعاد‏.‏ ‏{‏قُل لاَّ أَشْهَدُ‏}‏ بما تشهدون‏.‏ ‏{‏قُلْ إِنَّمَا هُوَ إله واحد‏}‏ أي بل أشهد أن لا إله إلا هو‏.‏ ‏{‏وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مّمَّا تُشْرِكُونَ‏}‏ يعني الأصنام‏.‏

‏{‏الذين آتيناهم الكتاب يَعْرِفُونَهُ‏}‏ يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم بحليته المذكورة في التوراة والإِنجيل‏.‏ ‏{‏كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ‏}‏ بحلاهم‏.‏ ‏{‏الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم‏}‏ من أهل الكتاب والمشركين‏.‏ ‏{‏فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ لتضييعهم ما به يكتسب الإِيمان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً‏}‏ كقولهم‏:‏ الملائكة بنات الله، وهؤلاء شفعاؤنا عند الله‏.‏ ‏{‏أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ‏}‏ كأن كذبوا بالقرآن والمعجزات وسموها سحراً‏.‏ وإنما ذكر ‏(‏أو‏)‏ وهم وقد جمعوا بين الأمرين تنبيهاً على أن كلا منهما وحده بالغ غاية الإِفراط في الظلم على النفس‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ‏}‏ الضمير للشأن‏.‏ ‏{‏لاَ يُفْلِحُ الظالمون‏}‏ فضلاً عمن لا أحد أظلم منه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً‏}‏ منصوب بمضمر تهويلاً للأمر‏.‏ ‏{‏ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ‏}‏ أي آلهتكم التي جعلتموها شركاء لله، وقرأ يعقوب «يحشرهم» ويقول بالياء‏.‏ ‏{‏الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ‏}‏ أي تزعمونهم شركاء، فحذف المفعولان والمراد من الاستفهام التوبيخ، ولعله يحال بينهم وبين آلهتهم حينئذ ليفقدوها في الساعة التي علقوا بها الرجاء فيها، ويحتمل أن يشاهدوهم ولكن لما لم ينفعوهم فكأنهم غيب عنهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ‏}‏ أي كفرهم، والمراد عاقبته وقيل معذرتهم التي يتوهمون أن يتخلصوا بها، من فتنت الذهب إذا خلصته‏.‏ وقيل جوابهم وإنما سماه فتنة لأنه كذب، أو لأنهم قصدوا به الخلاص‏.‏ وقرأ ابن كثير‏.‏ وابن عامر وحفص عن عاصم ‏{‏لَمْ تَكُنْ‏}‏ بالتاء و‏{‏فِتْنَتُهُمْ‏}‏ بالرفع على أنها الاسم، ونافع وأبو عمرو وأبو بكر عنه بالتاء والنصب على أن الاسم ‏{‏أَن قَالُواْ‏}‏، والتأنيث للخبر كقولهم من كانت أمك والباقون بالياء والنصب‏.‏ ‏{‏والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ‏}‏ يكذبون ويحلفون عليه مع علمهم بأنه لا ينفعهم من فرط الحيرة والدهشة، كما يقولون‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا‏}‏ وقد أيقنوا بالخلود‏.‏ وقيل معناه ما كنا مشركين عند أنفسنا وهو لا يوافق قوله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 30‏]‏

‏{‏انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏24‏)‏ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏25‏)‏ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ‏(‏26‏)‏ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآَيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏27‏)‏ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏28‏)‏ وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ‏(‏29‏)‏ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏انظر كَيْفَ كَذَبُواْ على أَنفُسِهِمْ‏}‏ أي بنفي الشرك عنها، وحمله على كذبهم في الدنيا تعسف يخل بالنظم ونظير ذلك قوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ‏}‏ وقرأ حمزة والكسائي ربنا بالنصب على النداء أو المدح‏.‏ ‏{‏وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ‏}‏ من الشركاء‏.‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ‏}‏ حين تتلو القرآن، والمراد أبو سفيان والوليد والنضر وعتبة وشيبة وأبو جهل وأضرابهم، اجتمعوا فسمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن فقالوا للنضر ما يقول، فقال؛ والذي جعلها بيته ما أدري ما يقول إلا أنه يحرك لسانه ويقول أساطير الأولين مثل ما حدثتكم عن القرون الماضية، فقال أبو سفيان إني لأرى حقاً فقال أبو جهل كلا‏.‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً‏}‏ أغطية جمع كنان وهو ما يستر الشيء‏.‏ ‏{‏أَن يَفْقَهُوهُ‏}‏ كراهة أن يفقهوه‏.‏ ‏{‏وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً‏}‏ يمنع من استماعه، وقد مر تحقيق ذلك في أول «البقرة»‏.‏ ‏{‏وَإِنْ يَرَوا كُلَّ آيَةٍ لاَ يُؤْمِنُوا بِهَا‏}‏ لفرط عنادهم واستحكام التقليد فيهم‏.‏ ‏{‏حتى إِذَا جَاؤُكَ يجادلونك‏}‏ أي بلغ تكذيبهم الآيات إلى أنهم جاؤو يجادلونك، وحتى هي التي تقع بعدها الجمل لا عمل لها، والجملة إذا وجوابه وهو ‏{‏يَقُولُ الذين كَفَرُواْ إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الأولين‏}‏ فإن جعل أصدق الحديث خرافات الأولين غاية التكذيب، ويجادلونك حال لمجيئهم، ويجوز أن تكون الجارة وإذا جاؤوك في موضع الجر ويجادلونك حال ويقول تفسير له، والأساطير الأباطيل جمع أسطورة أو اسطارة أو أسطار جمع سطر، وأصله السطر بمعنى الخط‏.‏

‏{‏وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ‏}‏ أي ينهون الناس عن القرآن، أو الرسول صلى الله عليه وسلم والإِيمان به‏.‏ ‏{‏وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ‏}‏ بأنفسهم أو ينهون عن التعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم وينأون عنه فلا يؤمنون به كأبي طالب‏.‏ ‏{‏وَإِن يُهْلِكُونَ‏}‏ وما يهلكون بذلك‏.‏ ‏{‏إلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ‏}‏ أن ضرره لا يتعداهم إلى غيرهم‏.‏

‏{‏وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار‏}‏ جوابه محذوف أي‏:‏ لو تراهم حين يوقعون على النار حتى يعاينوها، أو يطلعون عليها، أو يدخلونها فيعرفون مقدار عذابها لرأيت أمراً شنيعاً‏.‏ وقرئ ‏{‏وُقِفُواْ‏}‏ على البناء للفاعل من وقف عليها وقوفاً‏.‏ ‏{‏فَقَالُواْ ياليتنا نُرَدُّ‏}‏ تمنياً للرجوع إلى الدنيا‏.‏ ‏{‏وَلاَ نُكَذّبَ بئايات رَبّنَا وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين‏}‏ استئناف كلام منهم على وجه الإِثبات كقولهم‏:‏ دعني ولا أعود، أي وأنا لا أعود تركتني، أو لم تتركني أو عطف على نرد أو حال من الضمير فيه فيكون في حكم التمني، وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُمْ لكاذبون‏}‏ راجع إلى ما تضمنه التمني من الوعد، ونصبهما حمزة ويعقوب وحفص على الجواب بإضمار أن بعد الواو إجراء لها مجرى الفاء‏.‏ وقرأ ابن عامر برفع الأول على العطف ونصب الثاني على الجواب‏.‏

‏{‏بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ‏}‏ الإِضراب عن إرادة الإِيمان المفهومة من التمني، والمعنى أنه ظهر لهم ما كانوا يخفون من نفاقهم، أو قبائح أعمالهم فتمنوا ذلك ضجراً لا عزماً على أنهم لو ردوا لآمنوا‏.‏ ‏{‏وَلَوْ رُدُّواْ‏}‏ أي إلى الدنيا بعد الوقوف والظهور‏.‏ ‏{‏لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ‏}‏ من الكفر والمعاصي‏.‏ ‏{‏وَإِنَّهُمْ لكاذبون‏}‏ فيما وعدوا به من أنفسهم‏.‏

‏{‏وَقَالُواْ‏}‏ عطف على لعادوا، أو على إنهم لكاذبون أو على نهوا، أو استئناف بذكر ما قالوه في الدنيا‏.‏ ‏{‏إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا‏}‏ الضمير للحياة ‏{‏وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ‏}‏‏.‏

‏{‏وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ على رَبّهِمْ‏}‏ مجاز عن الحبس للسؤال والتوبيخ، وقيل معناه وقفوا على قضاء ربهم أو جزائه، أو عرفوه حق التعريف‏.‏ ‏{‏قَالَ أَلَيْسَ هذا بالحق‏}‏ كأنه جواب قائل قال‏:‏ ماذا قال ربهم حينئذ‏؟‏ والهمزة للتقريع على التكذيب، والإِشارة إلى البعث وما يتبعه من الثواب والعقاب‏.‏ ‏{‏قَالُواْ بلى وَرَبّنَا‏}‏ إقرار مؤكد باليمين لانجلاء الأمر غاية الجلاء‏.‏ ‏{‏قَالَ فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ‏}‏ بسبب كفركم أو ببدله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 40‏]‏

‏{‏قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ‏(‏31‏)‏ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏32‏)‏ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ‏(‏33‏)‏ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏34‏)‏ وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآَيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ‏(‏35‏)‏ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ‏(‏36‏)‏ وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آَيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏37‏)‏ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ‏(‏38‏)‏ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏39‏)‏ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏قَدْ خَسِرَ الذين كَذَّبُواْ بِلِقَاء الله‏}‏ إذ فاتهم النعم واستوجبوا العذاب المقيم ولقاء الله البعث وما يتبعه‏.‏ ‏{‏حتى إِذَا جَاءتْهُمُ الساعة‏}‏ غاية لكذبوا لا لخسر، لأن خسرانهم لا غاية له‏.‏ ‏{‏بَغْتَةً‏}‏ فجأة ونصبها على الحال، أو المصدر فإنها نوع من المجيء‏.‏ ‏{‏قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا‏}‏ أي تعالي فهذا أوانك‏.‏ ‏{‏على مَا فَرَّطْنَا‏}‏ قصرنا ‏{‏فِيهَا‏}‏ في الحياة الدنيا أضمرت وإن لم يجر ذكرها للعلم بها، أو في الساعة يعني في شأنها والإِيمان بها‏.‏ ‏{‏وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ‏}‏ تمثيل لاستحقاقهم آصار الآثام‏.‏ ‏{‏أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ‏}‏ بئس شيئاً يزرونه وزرهم‏.‏

‏{‏وَمَا الحياة الدنيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ‏}‏ أي وما أعمالها إلا لعب ولهو يلهي الناس ويشغلهم عما يعقب منفعة دائمة ولذة حقيقية‏.‏ وهو جواب لقولهم ‏{‏إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا‏}‏ ‏{‏وَلَلدَّارُ الآخرة خَيْرٌ لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ‏}‏ لدوامها وخلوص منافعها ولذاتها، وقوله‏:‏ ‏{‏لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ‏}‏ تنبيه على أن ما ليس من أعمال المتقين لعب ولهو‏.‏ وقرأ ابن عامر «ولدار الآخرة»‏.‏ ‏{‏أَفَلاَ تَعْقِلُونَ‏}‏ أي الأمرين خير‏.‏ وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم ويعقوب بالتاء على خطاب المخاطبين به، أو تغليب الحاضرين على الغائبين‏.‏

‏{‏قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذى يَقُولُونَ‏}‏ معنى قد زيادة الفعل وكثرته كما في قوله‏:‏

وَلَكِنَّهُ قَدْ يُهْلِكُ المَالَ نَائِلُهْ *** والهاء في أنه للشأن‏.‏ وقرئ ‏{‏لَيَحْزُنُكَ‏}‏ من أحزن‏.‏ ‏{‏فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذّبُونَكَ‏}‏ في الحقيقة‏.‏ وقرأ نافع والكسائي ‏{‏لاَ يُكَذّبُونَكَ‏}‏ من أكذبه إذا وجده كاذباً، أو نسبه إلى الكذب‏.‏ ‏{‏ولكن الظالمين بئايات الله يَجْحَدُونَ‏}‏ ولكنهم يجحدون بآيات الله ويكذبونها، فوضع الظالمين موضع الضمير للدلالة على أنهم ظلموا بجحودهم، أو جحدوا لتمرنهم على الظلم، والباء لتضمين الجحود معنى التكذيب‏.‏ روي أن أبا جهل كان يقول‏:‏ ما نكذبك وإنك عندنا لصادق وإنما نكذب ما جئتنا به‏.‏ فنزلت‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ‏}‏ تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه دليل على أن قوله‏:‏ ‏{‏لاَ يُكَذّبُونَكَ‏}‏، ليس لنفي تكذيبه مطلقاً‏.‏ ‏{‏فَصَبَرُواْ على مَا كُذّبُواْ وَأُوذُواْ‏}‏ على تكذيبهم وإيذائهم فتأس بهم واصبر‏.‏ ‏{‏حتى أتاهم نَصْرُنَا‏}‏ فيه إيماء بوعد النصر للصابرين‏.‏ ‏{‏وَلاَ مُبَدّلَ لكلمات الله‏}‏ لمواعيده من قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين‏}‏ الآيات‏.‏ ‏{‏وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَبَإِي المرسلين‏}‏ أي بعض قصصهم وما كابدوا من قومهم‏.‏

‏{‏وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ‏}‏ عظم وشق‏.‏ ‏{‏إِعْرَاضُهُمْ‏}‏ عنك وعن الإِيمان بما جئت به‏.‏ ‏{‏فَإِن استطعت أَن تَبْتَغِىَ نَفَقاً فِى الأرض أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ‏}‏ منفذاً تنفذ فيه إلى جوف الأرض فتطلع لهم آية، أو مصعداً تصعد به إلى السماء فتنزل منها آية، وفي الأرض صفة لنفقاً وفي السماء صفة لسلما، ويجوز أن يكونا متعلقين بتبتغي، أو حالين من المستكن وجواب الشرط الثاني محذوف تقديره فافعل، والجملة جواب الأول والمقصود بيان حرصه البالغ على إسلام قومه، وأنه لو قدر أن يأتيهم بآية من تحت الأرض أو من فوق السماء لأتى بها رجاء إيمانهم ‏{‏وَلَوْ شَاء الله لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهدى‏}‏ لوفقهم للإِيمان حتى يؤمنوا ولكن لم تتعلق به مشيئته، فلا تتهالك عليه والمعتزلة أولوه بأنه لو شاء لجمعهم على الهدى بأن يأتيهم بآية ملجئة ولكن لم يفعل لخروجه عن الحكمة‏.‏

‏{‏فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجاهلين‏}‏ بالحرص على ما لا يكون، والجزع في مواطن الصبر فإن ذلك من دأب الجهلة‏.‏

‏{‏إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الذين يَسْمَعُونَ‏}‏ إنما يجيب الذين يسمعون بفهم وتأمل لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ أَلْقَى السمع وَهُوَ شَهِيدٌ‏}‏ وهؤلاء كالموتى الذين لا يسمعون‏.‏ ‏{‏والموتى يَبْعَثُهُمُ الله‏}‏ فيعلمهم حين لا ينفعهم الإِيمان‏.‏ ‏{‏ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ‏}‏ للجزاء‏.‏

‏{‏وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ‏}‏ أي آية بما اقترحوه، أو آية أخرى سوى ما أنزل من الآيات المتكاثرة لعدم اعتدادهم بها عناداً‏.‏ ‏{‏قُلْ إِنَّ الله قَادِرٌ على أَن يُنَزّلٍ ءايَةً‏}‏ مما اقترحوه، أو آية تضطرهم إلى الإِيمان كنتق الجبل، أو آية إن جحدوها هلكوا‏.‏ ‏{‏ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ أن الله قادر على إنزالها، وأن إنزالها يستجلب عليهم البلاء، وأن لهم فيما أنزل مندوحة عن غيره‏.‏ وقرأ ابن كثير ينزل بالتخفيف والمعنى واحد‏.‏

‏{‏وَمَا مِن دَابَّةٍ فِى الأرض‏}‏ تدب على وجهها‏.‏ ‏{‏وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ‏}‏ في الهواء، وصفه به قطعاً لمجاز السرعة ونحوها‏.‏ وقرئ «ولا طائر» بالرفع على المحل‏.‏ ‏{‏إِلاَّ أُمَمٌ أمثالكم‏}‏ محفوظة أحوالها مقدرة أرزاقها وآجالها، والمقصود من ذلك الدلالة على كمال قدرته وشمول علمه وسعة تدبيره، ليكون كالدليل على أنه قادر على أن ينزل آية‏.‏ وجمع الأمم للحمل على المعنى‏.‏ ‏{‏مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْء‏}‏ يعني اللوح المحفوظ، فإنه مشتمل على ما يجري في العالم من الجليل والدقيق لم يهمل فيه أمر، حيوان ولا جماد‏.‏ أو القرآن فإنه قد دون فيه ما يحتاج إليه من أمر الدين مفصلاً أو مجملاً، ومن مزيدة وشيء في موضع المصدر لا بالمفعول به، فإن فرط لا يتعدى بنفسه وقد عدي بفي إلى الكتاب‏.‏ وقرئ ‏{‏مَّا فَرَّطْنَا‏}‏ بالتخفيف‏.‏ ‏{‏ثُمَّ إلى رَبّهِمْ يُحْشَرُونَ‏}‏ يعني الأمم كلها فينصف بعضها من بعض كما روي‏:‏ أنه يأخذ للجماء من القرناء‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏:‏ حشرها موتها‏.‏

‏{‏والذين كَذَّبُواْ بآياتنا صُمٌّ‏}‏ لا يسمعون مثل هذه الآيات الدالة على ربوبيته وكمال علمه وعظم قدرته سماعاً تتأثر به نفوسهم‏.‏ ‏{‏وَبُكْمٌ‏}‏ لا ينطقون بالحق‏.‏ ‏{‏فِى الظلمات‏}‏ خبر ثالث أي خابطون في ظلمات الكفر، أو في ظلمة الجهل وظلمة العناد وظلمة التقليد، ويجوز أن يكون حالاً من المستكن في الخبر‏.‏ ‏{‏مَن يَشَإِ الله يُضْلِلْهُ‏}‏ من يشأ الله إضلاله يضلله، وهو دليل واضح لنا على المعتزلة‏.‏

‏{‏وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ على صراط مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ بأن يرشده إلى الهدى ويحمله عليه‏.‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُكُم‏}‏ استفهام تعجيب، والكاف حرف خطاب أكد به الضمير للتأكيد لا محل له من الإِعراب لأنك تقول‏:‏ أرأيتك زيداً ما شأنه فلو جعلت الكاف مفعولاً كما قاله الكوفيون لعديت الفعل إلى ثلاثة مفاعيل، وللزم في الآية أن يقال‏:‏ أرأيتموكم بل الفعل معلق أو المفعول محذوف تقديره‏:‏ أرأيتكم آلهتكم تنفعكم‏.‏ إذ تدعونها‏.‏ وقرأ نافع أرأيتكم وأرأيت وأرأيتم وأفرأيتم وأفرأيت وشبهها إذا كان قبل الراء همزة بتسهيل الهمزة التي بعد الراء، والكسائي يحذفها أصلاً والباقون يحققونها وحمزة إذا وقف وافق نافعاً‏.‏ ‏{‏إِنْ أتاكم عَذَابُ الله‏}‏ كما أتى من قبلكم‏.‏ ‏{‏أَوْ أَتَتْكُمْ الساعة‏}‏ وهو لها ويدل عليه‏.‏ ‏{‏أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ‏}‏ وهو تبكيت لهم‏.‏ ‏{‏إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ أن الأصنام آلهة وجوابه محذوف أي فادعوه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ ‏(‏41‏)‏‏}‏

‏{‏بَلْ إياه تَدْعُونَ‏}‏ بل تخصونه بالدعاء كما حكى عنهم في مواضع، وتقديم المفعول لإِفادة التخصيص‏.‏ ‏{‏فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ‏}‏ أي ما تدعونه إلى كشفه‏.‏ ‏{‏إِن شَاء‏}‏ أي يتفضل عليكم ولا يشاء في الآخرة‏.‏ ‏{‏وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ‏}‏ وتتركون آلهتكم في ذلك الوقت لما ركز في العقول على أنه القادر على كشف الضر دون غيره، أو وتنسونه من شدة الأمر وهوله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إلى أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ‏}‏ أي قَبْلَكَ، وَمن زائدة‏.‏ ‏{‏فأخذناهم‏}‏ أي فكفروا وكذبوا المرسلين فأخذناهم‏.‏ ‏{‏بالبأساء‏}‏ بالشدة والفقر‏.‏ ‏{‏والضراء‏}‏ والضر والآفات وهما صيغتا تأنيث لا مذكر لهما‏.‏ ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ‏}‏ يتذللون لنا ويتوبون عن ذنوبهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ‏}‏ معناه نفي تضرعهم في ذلك الوقت مع قيام ما يدعوهم أي لم يتضرعوا‏.‏ ‏{‏ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ‏}‏ استدراك على المعنى وبيان للصارف لهم عن التضرع وأنه‏:‏ لا مانع لهم إلا قساوة قلوبهم وإعجابهم بأعمالهم التي زينها الشيطان لهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ‏}‏ من البأساء والضراء ولم يتعظوا به‏.‏ ‏{‏فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَيْءٍ‏}‏ من أنواع النعم مراوحة عليهم بين نوبتي الضراء والسراء، وامتحاناً لهم بالشدة والرخاء إلزاماً للحجة وإزاحة للعلة، أو مكراً بهم لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال ‏"‏ مكر بالقوم ورب الكعبة ‏"‏‏.‏ وقرأ ابن عامر ‏{‏فَتَحْنَا‏}‏ بالتشديد في جميع القرآن ووافقه يعقوب فيما عدا هذا والذي في «الأعراف»‏.‏ ‏{‏حتى إِذَا فَرِحُواْ‏}‏ أعجبوا ‏{‏بِمَا أُوتُواْ‏}‏ من النعم ولم يزيدوا غير البطر والاشتغال بالنعم عن المنعم والقيام بحقه سبحانه وتعالى‏.‏ ‏{‏أخذناهم بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ‏}‏ متحسرون آيسون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

‏{‏فَقُطِعَ دَابِرُ القوم الذين ظَلَمُواْ‏}‏ أي آخرهم بحيث لم يبق منهم أحد من دبره دبراً ودبوراً إذا تبعه‏.‏ ‏{‏والحمد للَّهِ رَبّ العالمين‏}‏ على إهلاكهم فإن هلاك الكفار والعصاة من حيث إنه تخليص لأهل الأرض من شؤم عقائدهم وأعمالهم، نعمة جليلة يحق أن يحمد عليها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ الله سَمْعَكُمْ وأبصاركم‏}‏ أصمكم وأعماكم‏.‏ ‏{‏وَخَتَمَ على قُلُوبِكُمْ‏}‏ بأن يغطي عليها ما يزول به عقلكم وفهمكم‏.‏ ‏{‏مَّنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِهِ‏}‏ أي بذلك، أو بما أخذ وختم عليه أو بأحد هذه المذكورات‏.‏ ‏{‏انظر كَيْفَ نُصَرّفُ الآيات‏}‏ نكررها تارة من جهة المقدمات العقلية وتارة من جهة الترغيب والترهيب، وتارة بالتنبيه والتذكير بأحوال المتقدمين‏.‏ ‏{‏ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ‏}‏ يعرضون عنها، وثم لاستبعاد الإِعراض بعد تصريف الآيات وظهورها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أتاكم عَذَابُ الله بَغْتَةً‏}‏ من غير مقدمة‏.‏ ‏{‏أَوْ جَهْرَةً‏}‏ بتقدمة أمارة تؤذن بحلوله‏.‏ وقيل ليلاً أو نهاراً‏.‏ وقرئ ‏{‏بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً‏}‏‏.‏ ‏{‏هَلْ يُهْلَكُ‏}‏ أي ما يهلك به هلاك سخط وتعذيب‏.‏ ‏{‏إِلاَّ القوم الظالمون‏}‏ ولذلك صح الاستثناء المفرغ منه، وقرئ ‏{‏يُهْلَكُ‏}‏ بفتح الياء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آَمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏48‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا نُرْسِلُ المرسلين إِلاَّ مُبَشّرِينَ‏}‏ المؤمنين بالجنة‏.‏ ‏{‏وَمُنذِرِينَ‏}‏ الكافرين بالنار، ولم نرسلهم ليقترح عليهم ويتلهى بهم‏.‏ ‏{‏فَمَنْ ءامَنَ وَأَصْلَحَ‏}‏ ما يجب إصلاحه على ما شرع لهم‏.‏ ‏{‏فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ‏}‏ من العذاب‏.‏ ‏{‏وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ بفوات الثواب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ‏(‏49‏)‏‏}‏

‏{‏والذين كَذَّبُواْ بئاياتنا يَمَسُّهُمُ العذاب‏}‏ جعل العذاب ماساً لهم كأنه الطالب للوصول إليهم، واستغنى بتعريفه عن التوصيف‏.‏ ‏{‏بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ‏}‏ بسبب خروجهم عن التصديق والطاعة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏50- 55‏]‏

‏{‏قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ ‏(‏50‏)‏ وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ‏(‏51‏)‏ وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏52‏)‏ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ‏(‏53‏)‏ وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏54‏)‏ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

‏{‏قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ الله‏}‏ مقدوراته أو خزائن رزقه‏.‏ ‏{‏وَلا أَعْلَمُ الغيب‏}‏ ما لم يوح إلي ولم ينصب عليه دليل وهو من جملة المقول‏.‏ ‏{‏وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنّى مَلَكٌ‏}‏ أي من جنس الملائكة، أو أقدر على ما يقدرون عليه‏.‏ ‏{‏إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ‏}‏ تبرأ عن دعوى الألوهية والملكية، وادعى النبوة التي هي من كمالات البشر رداً لاستبعادهم دعواه وجزمهم على فساد مدعاه‏.‏ ‏{‏قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الأعمى والبصير‏}‏ مثل للضال والمهتدي، أو الجاهل والعالم، أو مدعي المستحيل كالألوهية والملكية ومدعي المستقيم كالنبوة‏.‏ ‏{‏أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ‏}‏ فتهتدوا أو فتميزوا بين ادعاء الحق والباطل، أو فتعلموا أن اتباع الوحي مما لا محيص عنه‏.‏

‏{‏وَأَنذِرْ بِهِ‏}‏ الضمير لما يوحى إلي‏.‏ ‏{‏الذين يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إلى رَبّهِمْ‏}‏ هم المؤمنون المفرطون في العمل، أو المجوزون للحشر مؤمناً كان أو كافراً مقراً به أو متردداً فيه، فإن الإِنذار ينفع فيهم دون الفارغين الجازمين باستحالته‏.‏ ‏{‏لَيْسَ لَهُمْ مّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ‏}‏ في موضع الحال من يحشروا فإن المخوف هو الحشر على هذه الحالة‏.‏ ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏}‏ لكي يتقوا‏.‏

‏{‏وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشى‏}‏ بعدما أمره بإنذار غير المتقين ليتقوا أمره بإكرام المتقين وتقريبهم وأن لا يطردهم ترضية لقريش‏.‏ روي أنهم قالوا‏:‏ لو طردت هؤلاء الأعبد يعنون فقراء المسلمين كعمار وصهيب وخباب وسلمان جلسنا إليك وحادثناك فقال‏:‏ ‏"‏ ما أنا بطارد المؤمنين ‏"‏ قالوا‏:‏ فأقمهم عنا إذا جئناك قال «نعم»‏.‏ وروي أن عمر رضي الله عنه قال له‏:‏ لو فعلت حتى ننظر إلى ماذا يصيرون فدعا بالصحيفة وبعلي رضي الله تعالى عنه ليكتب فنزلت‏.‏ والمراد بذكر الغداة والعشي الدوام، وقيل صلاتا الصبح والعصر‏.‏ وقرأ ابن عامر بالغدوة هنا وفي الكهف‏.‏ ‏{‏يُرِيدُونَ وَجْهَهُ‏}‏ حال من يدعون، أي يدعون ربهم مخلصين فيه قيد الدعاء بالإِخلاص تنبيهاً على أنه ملاك الأمر‏.‏ ورتب النهي عليه إشعاراً بأنه يقتضي إكرامهم وينافي إبعادهم‏.‏ ‏{‏مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَئ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مّن شَيْء‏}‏ أي ليس عليك حساب إيمانهم فلعل إيمانهم عند الله أعظم من إيمان من تطردهم بسؤالهم طمعاً في إيمانهم لو آمنوا، أو ليس عليك اعتبار بواطنهم وإخلاصهم لما اتسموا بسيرة المتقين وإن كان لهم باطن غير مرضي كما ذكره المشركون وطعنوا في دينهم فحسابهم عليهم لا يتعداهم إليك، كما أن حسابك عليك لا يتعداك إليهم‏.‏ وقيل ما عليك من حساب رزقهم أي من فقرهم‏.‏ وقيل الضمير للمشركين والمعنى‏:‏ لا تؤاخذ بحسابهم ولا هم بحسابك حتى يهمك إيمانهم بحيث تطرد المؤمنين طمعاً فيه‏.‏ ‏{‏فَتَطْرُدَهُمْ‏}‏ فتبعدهم وهو جواب النفي ‏{‏فَتَكُونَ مِنَ الظالمين‏}‏ جواب النهي ويجوز عطفه على فتطردهم على وجه التسبب وفيه نظر‏.‏

‏{‏وكذلك فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ‏}‏ ومثل ذلك الفتن، وهو اختلاف أحوال الناس في أمور الدنيا‏.‏ ‏{‏فَتَنَّا‏}‏ أي ابتلينا بعضهم ببعض في أمر الدين فقدمنا هؤلاء الضعفاء على أشراف قريش بالسبق إلى الإِيمان‏.‏ ‏{‏لّيَقُولواْ أَهَؤُلاء مَنَّ الله عَلَيْهِم مّن بَيْنِنَا‏}‏ أي أهؤلاء من أنعم الله عليهم بالهداية والتوفيق لما يسعدهم دوننا، ونحن الأكابر والرؤساء وهم المساكين والضعفاء‏.‏ وهو إنكار لأن يخص هؤلاء من بينهم بإصابة الحق والسبق إلى الخير كقولهم‏:‏ ‏{‏لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ‏}‏ واللام للعاقبة أو للتعليل على أن فتنا متضمن معنى خذلنا ‏{‏أَلَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بالشاكرين‏}‏ بمن يقع منه الإِيمان والشكر فيوقفه وبمن لا يقع منه فيخذله‏.‏

‏{‏وَإِذَا جَاءكَ الذين يُؤْمِنُونَ بئاياتنا فَقُلْ سلام عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة‏}‏ الذين يؤمنون هم الذين يدعون ربهم وصفهم بالإِيمان بالقرآن واتباع الحجج بعدما وصفهم بالمواظبة على العبادة، وأمره بأن يبدأ بالتسليم أو يبلغ سلام الله تعالى إليهم ويبشرهم بسعة رحمة الله تعالى وفضله بعد النهي عن طردهم، إيذاناً بأنهم الجامعون لفضيلتي العلم والعمل، ومن كان كذلك ينبغي أن يقرب ولا يطرد، ويعز ولا يذل، ويبشر من الله بالسلامة في الدنيا والرحمة في الآخرة‏.‏ وقيل إن قوماً جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ إنا أصبنا ذنوباً عظاماً فلم يرد عليهم شيئاً فانصرفوا فنزلت‏.‏ ‏{‏أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءا‏}‏ استئناف بتفسير الرحمة‏.‏ وقرأ نافع وابن عامر وعاصم ويعقوب بالفتح على البدل منها‏.‏ ‏{‏بِجَهَالَةٍ‏}‏ في موضع الحال أي من عمل ذنباً جاهلاً بحقيقة ما يتبعه من المضار والمفاسد، كعمر فيما أشار إليه، أو ملتبساً بفعل الجهالة فإن ارتكاب ما يؤدي إلى الضرر من أفعال أهل السفه والجهل‏.‏ ‏{‏ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ‏}‏ بعد العمل أو السوء‏.‏ ‏{‏وَأَصْلَحَ‏}‏ بالتدارك والعزم على أن لا يعود إليه‏.‏ ‏{‏فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ فتحه من فتح الأول غير نافع على إضمار مبتدأ أو خبر أي فأمره أو فله غفرانه‏.‏

‏{‏وكذلك‏}‏ ومثل ذلك التفضيل الواضح‏.‏ ‏{‏نُفَصّلُ الآيات‏}‏ أي آيات القرآن في صفة المطيعين والمجرمين المصرين منهم والأوابين‏.‏ ‏{‏وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المجرمين‏}‏ قرأ نافع بالتاء ونصب السبيل على معنى ولتستوضح يا محمد سبيلهم فتعامل كلا منهم بما يحق له فصلنا هذا التفصيل، وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو ويعقوب وحفص عن عاصم برفعه على معنى ولنبين سبيلهم، والباقون بالياء والرفع على تذكير السبيل فإنه يذكر ويؤنث، ويجوز أن يعطف على علة مقدرة أي نفصل الآيات ليظهر الحق وليستبين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ إِنّي نُهِيتُ‏}‏ صرفت وزجرت بما نصب لي من الأدلة وأنزل علي من الآيات في أمر التوحيد‏.‏ ‏{‏أَنْ أَعْبُدَ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله‏}‏ عن عبادة ما تعبدون من دون الله، أو ما تدعونها آلهة أي تسمونها‏.‏ ‏{‏قُلْ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ‏}‏ تأكيد لقطع أطماعهم وإشارة إلى الموجب للنهي وعلة الامتناع عن متابعتهم واستجهال لهم، وبيان لمبدأ ضلالهم وأن ما هم عليه هوى وليس يهدي، وتنبيه لمن تحرى الحق على أن يتبع الحجة ولا يقلد‏.‏ ‏{‏قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً‏}‏ أي اتبعت أهواءكم فقد ضللت‏.‏ ‏{‏وَمَا أَنَاْ مِنَ المهتدين‏}‏ أي في شيء من الهدى حتى أكون من عدادهم، وفيه تعريض بأنهم كذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ إِنّي على بَيّنَةٍ‏}‏ تنبيه على ما يجب اتباعه بعد ما بين ما لا يجوز اتباعه‏.‏ والبينة الدلالة الواضحة التي تفصل الحق من الباطل وقيل المراد بها القرآن والوحي، أو الحجج العقلية أو ما يعمها‏.‏ ‏{‏مّن رَّبّى‏}‏ من معرفته وأنه لا معبود سواه، ويجوز أن يكون صفة لبينة‏.‏ ‏{‏وَكَذَّبْتُم بِهِ‏}‏ الضمير لربي أي كذبتم به حيث أشركتم به غيره، أو للبينة باعتبار المعنى‏.‏ ‏{‏مَا عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ‏}‏ يعني العذاب الذي استعجلوه بقولهم‏:‏ ‏{‏فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ ‏{‏إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ‏}‏ في تعجيل العذاب وتأخيره‏.‏ ‏{‏يَقُصُّ الحق‏}‏ أي القضاء الحق، أو يصنع الحق ويدبره من قولهم قضى الدرع إذا صنعها، فيما يقضي من تعجيل وتأخير وأصل القضاء الفصل بتمام الأمر، وأصل الحكم المنع فكأنه منع الباطل‏.‏ وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم «يقُصُّ» من قص الأثر، أو من قص الخبر‏.‏ ‏{‏وَهُوَ خَيْرُ الفاصلين‏}‏ القاضين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ ‏(‏58‏)‏‏}‏

‏{‏قُل لَّوْ أَنَّ عِندِى‏}‏ أي في قدرتي ومكنتي‏.‏ ‏{‏مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ‏}‏ من العذاب‏.‏ ‏{‏لَقُضِىَ الأمر بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ‏}‏ لأهلكتكم عاجلاً غضباً لربي، وانقطع ما بيني وبينكم‏.‏ ‏{‏والله أَعْلَمُ بالظالمين‏}‏ في معنى الاستدراك كأنه قال‏:‏ ولكن الأمر إلى الله سبحانه وتعالى وهو أعلم بمن ينبغي أن يؤخذ وبمن ينبغي أن يمهل منهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ‏(‏59‏)‏‏}‏

‏{‏وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب‏}‏ خزائنه جمع مفتح بفتح الميم، وهو المخزن أو ما يتوصل به إلى المغيبات مستعار من المفاتح الذي هو جمع مفتح بكسر الميم وهو المفتاح، ويؤيده أنه قرئ «مفاتيح» والمعنى أنه المتوصل إلى المغيبات المحيط علمه بها‏.‏ ‏{‏لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ‏}‏ فيعلم أوقاتها وما في تعجيلها وتأخيرها من الحكم فيظهرها على ما اقتضته حكمته وتعلقت به مشيئته، وفيه دليل على أنه سبحانه وتعالى يعلم الأشياء قبل وقوعها‏.‏ ‏{‏وَيَعْلَمُ مَا فِى البر والبحر‏}‏ عطف للأخبار عن تعلق علمه تعالى بالمشاهدات على الإِخبار عن اختصاص العلم بالمغيبات به‏.‏ ‏{‏وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا‏}‏ مبالغة في إحاطة علمه بالجزئيات‏.‏ ‏{‏وَلاَ حَبَّةٍ فِى ظلمات الأرض وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ‏}‏ معطوفات على ورقة وقوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ فِي كتاب مُّبِينٍ‏}‏ بدل من الاستثناء الأول بدل الكل على أن الكتاب المبين علم الله سبحانه وتعالى، أو بدل الاشتمال إن أريد به اللوح وقرئت بالرفع للعطف على محل ورقة أو رفعاً على الابتداء والخبر ‏{‏إِلاَّ فِى كتاب مُّبِينٍ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

‏{‏وَهُوَ الذى يتوفاكم باليل‏}‏ ينيمكم فيه ويراقبكم، استعير التوفي من الموت للنوم لما بينهم من المشاركة في زوال الإِحساس والتمييز فإن أصله قبض الشيء بتمامه‏.‏ ‏{‏وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار‏}‏ كسبتم فيه خص الليل بالنوم والنهار بالكسب جرياً على المعتاد‏.‏ ‏{‏ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ‏}‏ يوقظكم أطلق البعث ترشيحاً للتوفي ‏{‏فِيهِ‏}‏ في النهار‏.‏ ‏{‏ليقضى أَجَلٌ مّسَمًّى‏}‏ ليبلغ المتيقظ آخر أجله المسمى له في الدنيا ‏{‏ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ‏}‏ بالموت‏.‏ ‏{‏ثُمَّ يُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ بالمجازاة عليه‏.‏ وقيل الآية خطاب للكفرة والمعنى أنكم ملقون كالجيف بالليل وكاسبون للآثام بالنهار، وأنه سبحانه وتعالى مطلع على أعمالكم يبعثكم من القبور في شأن ذلك الذي قطعتم به أعماركم من النوم بالليل وكسب الآثام بالنهار، ليقضي الأجل الذي سماه وضربه لبعث الموتى وجزائهم على أعمالهم، ثم إليه مرجعكم بالحساب، ثم ينبئكم بما كنتم تعملون بالجزاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏61- 70‏]‏

‏{‏وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ‏(‏61‏)‏ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ‏(‏62‏)‏ قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ‏(‏63‏)‏ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ ‏(‏64‏)‏ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ‏(‏65‏)‏ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ‏(‏66‏)‏ لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏67‏)‏ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏68‏)‏ وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ‏(‏69‏)‏ وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ‏(‏70‏)‏‏}‏

‏{‏وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً‏}‏ ملائكة تحفظ أعملكم، وهم الكرام الكاتبون، والحكمة فيه أن المكلف إذا علم أن أعماله تكتب عليه وتعرض على رؤوس الأشهاد كان أزجر عن المعاصي، وأن العبد إذا وثق بلطف سيده واعتمد على عفوه وستره لم يحتشم منه احتشامه من خدمه المطلعين عليه‏.‏ ‏{‏حتى إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الموت تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا‏}‏ ملك الموت وأعوانه‏.‏ وقرأ حمزة «توفاه» بالألف ممالة‏.‏ ‏{‏وَهُمْ لاَ يُفَرّطُونَ‏}‏ بالتواني والتأخير‏.‏ وقرئ بالتخفيف، والمعنى‏:‏ لا يجاوزون ما حد لهم بزيادة أو نقصان‏.‏

‏{‏ثُمَّ رُدُّواْ إلى الله‏}‏ إلى حكمه وجزائه‏.‏ ‏{‏مولاهم‏}‏ الذي يتولى أمرهم‏.‏ ‏{‏الحق‏}‏ العدل الذي لا يحكم إلا بالحق وقرئ بالنصب على المدح‏.‏ ‏{‏أَلاَ لَهُ الحكم‏}‏ يومئذ لا حكم لغيره فيه‏.‏ ‏{‏وَهُوَ أَسْرَعُ الحاسبين‏}‏ يحاسب الخلائق في مقدار حلب شاة لا يشغله حساب عن حساب‏.‏

‏{‏قُلْ مَن يُنَجّيكُمْ مّن ظلمات البر والبحر‏}‏ من شدائدهما، استعيرت الظلمة للشدة لمشاركتهما في الهول وإبطال الإِبصار فقيل لليوم الشديد يوم مظلم ويوم ذو كواكب، أو من الخسف في البر والغرق في البحر‏.‏ وقرأ يعقوب ‏{‏يُنَجّيكُمْ‏}‏ بالتخفيف والمعنى واحد‏.‏ ‏{‏تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً‏}‏ معلنين ومسرين، أو إعلاناً وإسراراً وقرأ أبو بكر هنا وفي «الأعراف» ‏{‏وَخُفْيَةً‏}‏ بالكسر وقرئ ‏{‏خِيفَةً‏}‏‏.‏ ‏{‏لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين‏}‏ على إرادة القول أي تقولون لئن أنجيتنا‏.‏ وقرأ الكوفيون «لئن أنجانا» ليوافق قوله ‏{‏تَدْعُونَهُ‏}‏ وهذه إشارة إلى الظلمة‏.‏

‏{‏قُلِ الله يُنَجّيكُمْ مّنْهَا‏}‏ شدده الكوفيون وهشام وخففه الباقون‏.‏ ‏{‏وَمِن كُلّ كَرْبٍ‏}‏ غم سواها‏.‏ ‏{‏ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ‏}‏ تعودون إلى الشرك ولا توفون بالعهد، وإنما وضع تشركون موضع لا تشكرون تنبيهاً على أن من أشرك بعبادة الله سبحانه وتعالى فكأنه لم يعبده رأساً‏.‏

‏{‏قُلْ هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ‏}‏ كما فعل بقوم نوح ولوط وأصحاب الفيل‏.‏ ‏{‏أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ‏}‏ كما أغرق فرعون، وخسف بقارون‏.‏ وقيل من فوقكم أكابركم وحكامكم ومن تحت أرجلكم سفلتكم وعبيدكم‏.‏ ‏{‏أَوْ يَلْبِسَكُمْ‏}‏ يخلطكم‏.‏ ‏{‏شِيَعاً‏}‏ فرقا متحزبين على أهواء شتى، فينشب القتال بينكم قال‏:‏

وَكَتِيبَهٌ لَبسْتُهَا بِكَتِيبَة *** حَتَّى إِذَا التَبَسَتْ نَفَضْتُ لَهَا يَدَي

‏{‏وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ‏}‏ يقاتل بعضكم بعضاً‏.‏ ‏{‏انظر كَيْفَ نُصَرّفُ الآيات‏}‏ بالوعد والوعيد‏.‏ ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ‏}‏ أي بالعذاب أو بالقرآن‏.‏ ‏{‏وَهُوَ الحق‏}‏ الواقع لا محالة أو الصدق‏.‏ ‏{‏قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ‏}‏ بحفيظ وكل إلي أمركم فأمنعكم من التكذيب، أو أجازيكم إنما أنا منذر والله الحفيظ‏.‏

‏{‏لّكُلّ نَبَإٍ‏}‏ خبر يريد به إما بالعذاب أو الإِيعاد به‏.‏ ‏{‏مُّسْتَقِرٌّ‏}‏ وقت استقرار ووقوع‏.‏ ‏{‏وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏ عند وقوعه في الدنيا والآخرة‏.‏

‏{‏وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ فِى ءاياتنا‏}‏ بالتكذيب والاستهزاء بها والطعن فيها‏.‏

‏{‏فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ‏}‏ فلا تجالسهم وقم عنهم‏.‏ ‏{‏حتى يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ‏}‏ أعاد الضمير على معنى الآيات لأنها القرآن‏.‏ ‏{‏وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشيطان‏}‏ بأن يشغلك بوسوسته حتى تنسى النهي‏.‏ وقرأ ابن عامر ‏{‏يُنسِيَنَّكَ‏}‏ بالتشديد‏.‏ ‏{‏فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذكرى‏}‏ بعد أن تذكره‏.‏ ‏{‏مَعَ القوم الظالمين‏}‏ أي معهم، فوضع الظاهر موضع المضمر دلالة على أنهم ظلموا بوضع التكذيب والاستهزاء موضع التصديق والاستعظام‏.‏

‏{‏وَمَا عَلَى الذين يَتَّقُونَ‏}‏ وما يلزم المتقين من قبائح أعمالهم وأقوالهم الذين يجالسونهم‏.‏ ‏{‏مِنْ حِسَابِهِم مّن شَيْء‏}‏ شيء مما يحاسبون عليه‏.‏ ‏{‏ولكن ذكرى‏}‏ ولكن عليهم أن يذكروهم ذكرى ويمنعوهم عن الخوض وغيره من القبائح ويظهروا كراهتها وهو يحتمل النصب على المصدر والرفع ولكن عليهم ذكرى، ولا يجوز عطفه على محل من شيء لأن من حسابهم يأباه ولا على شيء لذلك ولأن من لا تزاد في الإِثبات‏.‏ ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏}‏ يجتنبون ذلك حياء أو كراهة لمساءتهم، ويحتمل أن يكون الضمير للذين يتقون والمعنى‏:‏ لعلهم يثبتون على تقواهم ولا تنثلم بمجالستهم‏.‏ روي‏:‏ أن المسلمين قالوا لئن كنا نقوم كلما استهزءوا بالقرآن لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام، ونطوف، فنزلت‏.‏

‏{‏وَذَرِ الَّذِينَ اتخذوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً‏}‏ أي بنوا أمر دينهم على التشهي وتدينوا بما لا يعود عليهم بنفع عاجلاً وآجلاً، كعبادة الأصنام وتحريم البحائر والسوائب، أو اتخذوا دينهم الذي كلفوه لعباً ولهواً حيث سخروا به، أو جعلوا عيدهم الذي جعل ميقات عبادتهم زمان لهو ولعب‏.‏ والمعنى أعرض عنهم ولا تبال بأفعالهم وأقوالهم، ويجوز أن يكون تهديداً لهم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا‏}‏ حتى أنكروا البعث‏.‏ ‏{‏وَذَكّرْ بِهِ‏}‏ أي بالقرآن‏.‏ ‏{‏أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ‏}‏ مخافة أن تسلم إلى الهلاك وترهن بسوء عملها‏.‏ وأصل الأبسال والبسل المنع ومنه أسد باسل لأن فريسته لا تفلت منه، والباسل الشجاع لامتناعه من قرنه وهذا بسل عليك أي حرام‏.‏ ‏{‏لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ الله وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ‏}‏ يدفع عنها العذاب‏.‏ ‏{‏وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ‏}‏ وإن تفد كل فداء والعدل الفدية لأنها تعادل المفدي وها هنا الفداء وكل نصب على المصدرية‏.‏ ‏{‏لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا‏}‏ الفعل مسند إلى منها لا إلى ضميره بخلاف قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ‏}‏ فإنه المفدى به‏.‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ الذين أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ‏}‏ أي سلموا إلى العذاب بسبب أعمالهم القبيحة وعقائدهم الزائغة‏.‏ ‏{‏لَهُمْ شَرَابٌ مّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ‏}‏ تأكيد وتفصيل لذلك، والمعنى هم بين ماء مغلي يتجرجر في بطونهم ونار تشتعل بأبدانهم بسبب كفرهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏

‏{‏قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏71‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ أَنَدْعُواْ‏}‏ أنعبد‏.‏ ‏{‏مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا‏}‏ ما لا يقدر على نفعنا وضرنا‏.‏ ‏{‏وَنُرَدُّ على أعقابنا‏}‏ ونرجع إلى الشرك‏.‏ ‏{‏بَعْدَ إِذْ هَدَانَا الله‏}‏ فأنقذنا منه ورزقنا الإِسلام‏.‏ ‏{‏كالذى استهوته الشياطين‏}‏ كالذي ذهبت به مردة الجن في المهامة، استفعال من هوى يهوي هويًا إذا ذهب‏.‏ وقرأ حمزة «استهواه» بألف ممالة ومحل الكاف النصب على الحال من فاعل ‏{‏نُرَدُّ‏}‏ أي‏:‏ مشبهين الذي استهوته، أو على المصدر أي رداً مثل رد الذي استهوته‏.‏ ‏{‏فِى الأرض حَيْرَانَ‏}‏ متحيراً ضالاً عن الطريق‏.‏ ‏{‏لَهُ أصحاب‏}‏ لهذا المستهوى رفقة‏.‏ ‏{‏يَدْعُونَهُ إِلَى الهدى‏}‏ إلى أن يهدوه الطريق المستقيم، أو إلى الطريق المستقيم وسماه هدى تسمية للمفعول بالمصدر‏.‏ ‏{‏ائتنا‏}‏ يقولون له ائتنا‏.‏ ‏{‏قُلْ إِنَّ هُدَى الله‏}‏ الذي هو الإِسلام‏.‏ ‏{‏هُوَ الهدى‏}‏ وحده وما عداه ضلال‏.‏ ‏{‏وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبّ العالمين‏}‏ من جملة المقول عطف على أن هدى الله، واللام لتعليل الأمر أي أمرنا بذلك لنسلم‏.‏ وقيل هي بمعنى الباء وقيل هي زائدة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏72‏]‏

‏{‏وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏72‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَنْ أَقِيمُواْ الصلاة واتقوه‏}‏ عطف على لنسلم أي للإسلام ولإقامة الصلاة، أو على موقعه كأنه قيل‏:‏ وأمرنا أن نسلم وأن أقيموا الصلاة‏.‏ روي‏:‏ أن عبد الرحمن بن أبي بكر دعا أباه إلى عبادة الأوثان، فنزلت‏.‏ وعلى هذا كان أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا القول إجابة عن الصديق رضي الله تعالى عنه تعظيماً لشأنه وإظهاراً للاتحاد الذي كان بينهما‏.‏ ‏{‏وَهُوَ الذى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ‏}‏ يوم القيامة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ‏(‏73‏)‏‏}‏

‏{‏وَهُوَ الذى خَلَقَ السموات والأرض بالحق‏}‏ قائماً بالحق والحكمة‏.‏ ‏{‏وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الحق‏}‏ جملة اسمية قدم فيها الخبر أي قوله الحق يوم يقول، كقولك‏:‏ القتال يوم الجمعة، والمعنى أنه الخالق للسموات والأرضين، وقوله الحق نافذ في الكائنات‏.‏ وقيل يوم منصوب بالعطف على السموات أو الهاء في واتقوه، أو بمحذوف دل عليه بالحق‏.‏ وقوله الحق مبتدأ وخبر أو فاعل يكون على معنى وحين يقول لقوله الحق أي لقضائه كن فيكون، والمراد به حين يكون الأشياء ويحدثها أو حين تقوم القيامة فيكون التكوين حشر الأموات وإحياءها‏.‏ ‏{‏وَلَهُ الملك يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصور‏}‏ كقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏لّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار‏}‏ ‏{‏عالم الغيب والشهادة‏}‏ أي هو عالم الغيب‏.‏ ‏{‏وَهُوَ الحكيم الخبير‏}‏ كالفذلكة للآية‏.‏